التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
٩٤
-النساء

تفسير القرآن العظيم

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا: حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } إلى آخرها، ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، عن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن إسرائيل به، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الباب عن أسامة بن زيد، ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم ابن سليمان، كلاهما عن إسرائيل به، وقال في بعض كتبه غير التفسير: وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط، وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً؛ لعلل منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه، ومنها أن عكرمة في روايته عندهم نظر، ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه، فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيد، وقيل غير ذلك، قلت: وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه: أحدها أنه ثابت عن سماك، حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار، الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح، الثالث أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس، كما قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار،عن عطاء، عن ابن عباس: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قال ابن عباس: عرض الدنيا تلك الغنيمة، وقرأ ابن عباس: { ٱلسَّلَـٰمَ }، وقال سعيد بن منصور: حدثنا منصور عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فنزلت: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً }. وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة به، وقد... في ترجمة: أن أخاه فزاراً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر أبيه؛ بإسلامهم وإسلام قومهم، فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في عماية الليل، وكان قد قال لهم: إنه مسلم، فلم يقبلوا منه، فقتلوه، فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ألف دينار، ودية أخرى، وسيرني، فنزل قوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية.

وأما قصة محلم بن جثامة، فقال الإمام أحمدرحمه الله : حدثنا يعقوب، حدثني أبي عن محمد بن إسحاق، حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث ابن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا، حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له، ووطب من لبن، فلما مر بنا، سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله؛ لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه الخبر، نزل فينا: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } ـ إلى قوله تعالى ـ { خَبِيرًا } تفرد به أحمد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم، فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سر اليوم وغر غداً، فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ماذاق نسائي، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك" ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم" ثم طرحوه بين صدفي جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } الآية.

وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للمقداد: "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل" هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً، وقد روي مطولاً موصولاً، فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حماد بن علي البغدادي، حدثنا جعفر بن سلمة، حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرية فيها المقداد ابن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى عليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: "ادعوا لي المقداد، يا مقداد: أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟" قال: فأنزل الله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ }، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" . وقوله: { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي: خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتهمتموه بالمصانعة والتقية؛ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.

وقوله: { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: { { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ٱلأَرْضِ } [الأنفال: 26] الآية، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد ابن جبير في قوله: { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } تخفون إيمانكم في المشركين، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله: { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم: وذكر عن قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير: قوله { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } لم تكونوا مؤمنين { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: تاب عليكم، فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وقوله: { فَتَبَيَّنُواْ } تأكيد لما تقدم، وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } قال سعيد ابن جبير: هذا تهديد ووعيد.