التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
٩٥
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٩٦
-النساء

تفسير القرآن العظيم

قال البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء، قال: لما نزلت: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم، فشكا ضرارته، فأنزل الله: { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ }، حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، قال: لما نزلت: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم "ادع فلاناً" فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال البخاري أيضاً: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، حدثني سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا: أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد، لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان فخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخدي، ثم سري عنه، فأنزل الله: { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } تفرد به البخاري دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال: حدثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، قال: قال زيد ابن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، قال: فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئاً قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه، فقال: "اكتب يا زيد" فأخذت كتفاً، فقال: "اكتب { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ } إلى قوله: { أَجْراً عَظِيماً }" فكتبت ذلك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى، فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، وقال: يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد، ومن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ قال زيد: فوالله ما قضى كلامه ـ أو ماهو إلا أن قضى كلامه ـ غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: "اقرأ" فقرأت عليه: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فقال النبي: { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ }، قال زيد: فألحقتها،فوالله كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف، ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به نحوه.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، أنبأنا الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } فجاء عبد الله بن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري، قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله على فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سري عنه، ثم قال: اكتب: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ }، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ـ وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجزري: أن مقسماً مولى عبد الله بن الحارث أخبره: أن ابن عباس أخبره: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } عن بدر، والخارجون إلى بدر، انفرد به البخاري دون مسلم، وقد رواه الترمذي من طريق حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } عن بدر، والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله، فهل لنا رخصة؟ فنزلت: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَـٰتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر، هذا لفظ الترمذي. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، فقوله: { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقاً، فلما نزل بوحي سريع: { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ }، صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد؛ من العمى والعرج والمرض، عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس: { غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ }، وكذا ينبغي أن يكون، كما ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه" قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: "نعم حبسهم العذر" ، وهكذا رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي، عن حميد، عن أنس به، وعلقه البخاري مجزوماً، ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه" ، قالوا: وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله؟ قال: "نعم، حبسهم العذر" لفظ أبي داود، وفي هذا المعنى قال الشاعر:

يا راحِلِيْنَ إلى البيتِ العَتيقِ لَقَدْسِرْتُمْ جُسوماً وسِرْنا نحن أَرْواحا
إنَّا أقمْنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍومَنْ أقامَ على عُذْرٍ فَقَدْ راحا

وقوله: { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض على الكفاية. قال تعالى: { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً، ولهذا قال: { دَرَجَـٰتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" . وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رمى بسهم، فله أجره درجة" فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: "أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام" .