التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٣
وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٦
-فصلت

تفسير القرآن العظيم

يقول عز وجل: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ } أي: دعا عباد الله إليه، { وَعَمِلَ صَـٰلِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي: هو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره، لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك؛ كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقيل: المراد بها المؤذنون الصلحاء؛ كما ثبت في صحيح مسلم: "المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة" ، وفي السنن مرفوعاً: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عروة الهروي، حدثنا غسان قاضي هراة: وقال أبو زرعة: حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه قال: "سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه" قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو كنت مؤذناً، ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد. قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كنت مؤذناً، لكمل أمري، وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل، ولا لصيام النهار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للمؤذنين" ثلاثاً، قال: فقلت: يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف، قال صلى الله عليه وسلم "كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعافهم، وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار؛ لحوم المؤذنين" قال: وقالت عائشة رضي الله عنها: ولهم هذه الآية: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } قالت: فهو المؤذن، إذا قال: حي على الصلاة، فقد دعا إلى الله. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما، وعكرمة: إنها نزلت في المؤذنين. وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: أنه قال في قوله عز وجل: وَعَمِلَ صَالِحاً، يعني: صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة. ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة ــــ ثم قال في الثالثة: ــــ لمن شاء" وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه. وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ــــ قال الثوري: لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة" ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة، كلهم من حديث الثوري به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه النسائي أيضاً من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به. والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نزول هذه الآية، فإنه لم يكن الأذان مشروعاً بالكلية؛ لأنها مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه في منامه، فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه؛ فإنه أندى صوتاً؛ كما هو مقرر في موضعه، فالصحيح إذن أنها عامة؛ كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال إنني من المسلمين، هذا خليفة الله. وقوله تعالى: { وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ } أي: فرق عظيم بين هذه وهذه { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } أي: من أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان إليه؛ كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

وقوله عز وجل: { فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } وهو الصديق. إذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم، أي: قريب إليك؛ من الشفقة عليك، والإحسان إليك، ثم قال عز وجل: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها، إلا من صبر على ذلك؛ فإنه يشق على النفوس، { وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك، عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقوله تعالى: { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } أي: إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه، فأما شيطان الجن، فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه، كفه عنك، ورد كيده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ، وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى: { { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 199 ــــ 200] وفي سورة المؤمنين عند قوله: { { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [المؤمنون: 96 ــــ 98].