التفاسير

< >
عرض

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
٣٢
إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٤
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً { كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ } أي: شرعنا لهم وأعلمناهم: { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي: من قتل نفساً بغير سبب؛ من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها، أي: حرم قتلها، واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال: { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين فقال: يا أباهريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً، وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً، فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، مأجوراً غير مأزور، قال: فانصرفت، ولم أقاتل. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحق، حيي الناس منه، وهكذا قال مجاهد: ومن أحياها، أي: كف عن قتلها.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً }، يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله، فهو مثل من قتل الناس جميعاً. وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم، فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر. وقال عكرمة والعوفي عن ابن عباس: من قتل نبياً أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعاً، رواه بان جرير. وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، وذلك لأن من قتل النفس، فله النار، فهو كما لو قتل الناس كلهم. قال ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } من قتل النفس المؤمنة متعمداً، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، يقول: لو قتل الناس جميعاً، لم يزد على مثل ذلك العذاب، قال ابن جريج: قال مجاهد: { وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } قال: من لم يقتل أحداً، فقد حيي الناس منه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفساً، فكأنما قتل الناس، يعني: فقد وجب عليه القصاص، فلا فرق بين الواحد والجماعة، ومن أحياها، أي: عفا عن قاتل وليه، فكأنما أحيا الناس جميعاً، وحكى ذلك عن أبيه، رواه ابن جرير، وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها، أي: أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. وقال الحسن وقتادة في قوله: { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً }، هذا تعظيم لتعاطي القتل، قال قتادة: عظيم والله وزرها، وعظيم والله أجرها. وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكين، عن سليمان بن علي الربعي، قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، وقال الحسن البصري: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً }، قال: وزراً، { وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }، قال: أجراً. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حمزة نفس تحييها أحب إليك، أم نفس تميتها؟" قال: بل نفس أحييها، قال: "عليك بنفسك"

قوله تعالى: { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَـٰتِ } أي: بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة، { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِى ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم؛ من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها، فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَـٰرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } } [البقرة:84-85].

وقوله: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } الآية، المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض. وقد قال تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري، قالا: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب، ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة، عن ابن عباس: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً }، نزلت في المشركين؛ من تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } الآية، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخير الله رسوله؛ إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، رواه ابن جرير.

وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: نزلت في الحرورية { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم؛ ممن ارتكب هذه الصفات؛ كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة، واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري، عن أنس بن مالك: أن نفراً من عكل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: "ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها وألبانها" ؟ فقالوا: بلى، فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم، وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة، وفي لفظ: وألقوا في الحرة، فجعلوا يستسقون، فلا يسقون.

وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم، وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله، ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب، وحميد عن أنس، فذكر نحوه، وعنده: فارتدوا، وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه، وقال سعيد عن قتادة: من عكل وعرينة، وراه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء، ورواه مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الدم، وهوالبرسام، ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فارساً، فأرسلهم، وبعث معم قائفاً يقفو أثرهم، وهذه كلها ألفاظ مسلمرحمه الله .

وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل، عن أنس بن مالك: أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا، ونزلت: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه، وهذا لفظه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين عن سلام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: ما ندمت على حديث، ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم، وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.

وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد، يعني: ابن مسلم، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عكل، فلما أتي بهم، قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يلتقمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود، يعني: عبد الرحمن بن الحسن الزجاج، حدثنا أبو سعيد، يعني: البقال،عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد، مصفرة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم، وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسمل أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. وقال: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر، أو عمرو - شك يونس - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، يعني: بقصة العرنيين، ونزلت فيهم آية المحاربة، ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه: عن ابن عمر، من غير شك.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف، حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحوا واشتدوا، قتلوا رعاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار" حتى هلكوا، قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية، هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف، وفي إسناده فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو جرير بن عبد الله البجلي، وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارساً من الأنصار، وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصاً، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطلبوا، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم. قال أبو هريرة: ففيهم نزلت هذه الآية: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمل الأعين بعد، وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.

وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد عن عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسار، فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على يسار فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم أطردوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلاً من المسلمين، كبيرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم، فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، غريب جداً، وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة، منهم: جابر وعائشة وغير واحد، وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً، فرحمه الله وأثابه.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم، وسئل عن أبوال الإبل، فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها" قال: فبينما هم كذلك، إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: "أن يا خيل الله اركبي" قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارساً، قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية، قال: فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم، منهم وصلب، وقطع وسمل الأعين، قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال: "ولا تمثلوا بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بجيلة.

وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين: هل هو منسوخ، أومحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: { { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة: 43]. ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا القول فيه نظر، ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها؛ فإنه أسلم بعد نزول المائدة، ومنهم من قال: لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن، فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر، فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه: أنه سمل، وفي رواية: سمل أعينهم.

وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، يعني: الأوزاعي، فأنكر أن يكون نزلت معاتبة، وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورفع عنهم السمل، ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور من العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء؛ لقوله: { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله، ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل.وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار، فلا؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق؛ لبعده ممن يغيثه ويعينه.

وقوله تعالى: { أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به، وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك، وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكى مثله عن مالك بن أنسرحمه الله ، ومستند هذا القول أن ظاهر (أو) للتخيير؛ كما في نظائر ذلك من القرآن؛ كقوله في جزاء الصيد: { { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } [المائدة: 95]، وكقوله في كفارة الفدية: { { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196]، وكقوله في كفارة اليمين: { { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [المائدة: 89]، هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية.

وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق؛ إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال، نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه. وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك، وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة، واختلفوا: هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً، ثم يصلب؛ تنكيلا وتشديداً لغيره من المفسدين، وهل يصلب ثلاثة أيام، ثم ينزل، أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة، وعليه التكلان.

ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره، إن صح سنده، فقال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان، كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره: أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام، قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق مالاً وأخاف السبيل، فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه.

وأما قوله تعالى: { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد، أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس. وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي: ينفيه - كما قال ابن هبيرة - من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفىٰ من جند إلى جند سنين، ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان، إنه ينفى، ولا يخرج من أرض الإسلام، وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر، فيسجن فيه.

وقوله تعالى: { ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم، خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين. فأما أهل الإسلام، ففي صحيح مسلم: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه بعضنا بعضاً، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب، فهو كفارة له، ومن ستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أذنب ذنباً في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا، فستره الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه" . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعاً وموقوفاً، قال: ورفعه صحيح.

وقال ابن جرير في قوله: { ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا } يعني: شر وعار ونكال، وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. { وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا، لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا { عَذَابٌ عَظِيمٌ }، يعني: عذاب جهنم. وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك، فظاهر، وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش، منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر،فكلموا علياً فيه، فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره، ثم أتى علياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً؟ فقرأ حتى بلغ: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } قال: فكتب له أماناً، قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر، وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به، وزاد: فقال حارثة بن بدر:

ألا بَلِّغَنْ هَمْدانَ إِمّا لَقِيْتَهاعلى النَّأْيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُها
لَعَمْرُ أبيها إِنَّ هَمْدانَ تَتَّقِي الـ إله ويَقْضِي بالكتابِ خطيبُها

وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي، ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فساداً، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه، فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقاً، فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً، تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج، فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث: وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا: أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: { { قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ } [الزمر: 53] فوقف عليه، فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها، فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا، عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائباً من قبل أن تقدورا علي، فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا علي جاء تائباً، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.