لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث، وما أحله لهم من الطيبات، قال بعده: { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُ } ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين؛ من اليهود والنصارى، فقال: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة وعطاء والحسن، ومكحول وإبراهيم النخعي، والسدي ومقاتل بن حيان: يعني: ذبائحهم، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولايذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس.
وقد ثبت في الصحيح: عن عبد الله بن مغفل، قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر، فحضنته، وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحداً، والتفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، فاستدل به الفقهاء، على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة، قبل القسمة، وهذا ظاهر، واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة، على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم؛ كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم، فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله، لقوله تعالى: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } قالوا: وهذا ليس من طعامهم، واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين، ويحتمل أن يكون شحماً يعتقدون حله؛ كشحم الظهر والحوايا ونحوهما، والله أعلم، وأجود منه في الدلالة، ما ثبت في الصحيح، أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية، وقد سموا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله، فنهش منه نهشة، فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم: هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير، وإهالة سنخة، يعني: ودكاً زنخاً. وقال ابن أبي حاتم: قرىء على العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: أنزل الله:
{ { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] ثم نسخه الرب عز وجل، ورحم المسلمين، فقال: { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب، وفي هذا الذي قاله مكحولرحمه الله نظر؛ فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل مالم يذكر اسم الله عليه؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون بذلك، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك، ومن شابههم؛ لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء. ونصارى العرب؛ كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد بن عبيدة، قال: قال علي: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب؛ لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف. وقال سعيد ابن أبي عروبة: عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب. وأما المجوس؛ فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب، فإنهم لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، خلافاً لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي؛ أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد ابن حنبل. ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، يعني: في هذه المسألة، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } فدل بمفهومه؛ مفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل. وقوله تعالى: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم، اللهم إلا أن يكون خبراً عما أمروا به؛ من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم، أو غيرها، والأول أظهر في المعنى، أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم؛ كما أكلتم من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول، حين مات، ودفنه فيه، قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك، فأما الحديث الذي فيه: "لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي" فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. وقوله: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } فقيل: أراد بالمحصنات: الحرائر، دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات: الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة: العفيفة، كما قال في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: «حشفاً وسوء كيلة» والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات: العفيفات عن الزنا؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: { مُحْصَنَـٰت غَيْرَ مُسَـٰفِحَـٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف؛ ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل: المراد بأهل الكتاب ههنا: الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد بذلك: الذميات، دون الحربيات؛ لقوله:
{ { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [التوبة: 29] الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول: إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: { { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 231] الآية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك، يعني: المزني، حدثنا إسماعيل بن سميع، عن أبي مالك الغفاري، قال: نزلت هذه الآية:
{ { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 231] قال: فحجز الناس عنهن، حتى نزلت الآية التي بعدها: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأساً؛ أخذاً بهذه الآية الكريمة: { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة: { { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 231] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [البينة: 1] وكقوله: { { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } [آل عمران: 20] الآية. وقوله: { إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي: مهورهن، أي: كما هن محصنات عفائف، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس، وقد أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري، بأن الرجل إذا نكح امرأة، فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما، وترد عليه ما بذل لها من المهر، رواه ابن جرير عنهم.
وقوله: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِىۤ أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء، وهي العفة عن الزنا، كذلك شرطها في الرجال، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً، ولهذا قال: غير مسافحين، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم، ولا متخذي أخدان، أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن؛ كما تقدم في سورة النساء سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبلرحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك، لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب، ويقلع عما هو فيه من الزنا؛ لهذه الآية، وللحديث:
"لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله" ، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة، فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله: { { ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 3]، ولهذا قال تعالى ههنا: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى ٱلاَْخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }.