التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٨
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه، وقبوله منه، فقال تعالى: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم؛ كما قالوا: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. وقال الله تعالى: { { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـٰقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [الحديد: 8]، وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه، وأشهدهم على أنفسهم { { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } [الأعراف: 172] قاله مجاهد ومقاتل بن حيان، والقول الأول أظهر، وهوالمحكي عن ابن عباس والسدي، واختاره ابن جرير.

ثم قال تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }، وقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَآ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } أي: كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا { شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } أي: بالعدل، لا بالجور، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: "أكل ولدك نحلت مثله؟" قال: لا، فقال: "اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم" . وقال: "إني لا أشهد على جور" قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة.

وقوله تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقاً كان أو عدواً، ولهذا قال: { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أي: عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه، ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه؛ كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ }.

وقوله: هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: { { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [الفرقان: 24] وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال بعده: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي: لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وهوالجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم، بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة.

ثم قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـٰۤئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } وهذا من عدله تعالى، وحكمته، وحكمه الذي لا يجور فيه، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير. وقوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَآ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ }. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً، وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه فسله،ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله عز وجل" . قال الأعرابي، مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الله" . قال: فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه، وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } الآية، وقصة هذا الأعرابي، وهو غَوْرَثُ بن الحارث ثابتة في الصحيح.

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: { يَـٰأَيُّهَآ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } وذلك أن قوماً من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاماً ليقتلوهم، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأت الطعام، وأمر أصحابه فأتوه، رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي حاتم. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد، أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى، لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بن كعب بذلك، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار، واجتمعوا عنده، أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة، وتبعه أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقوله تعالى: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } يعني: من توكل على الله، كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس، وعصمه، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم.