التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
-الأنعام

تفسير القرآن العظيم

قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلَـٰدَكُمْ مِّنْ إمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة، قال: سمعت ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قلت: ورواه زهير وقيس بن الربيع، كلاهما عن أبي إسحاق عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس به، والله أعلم.

وروى الحاكم أيضاً في مستدركه، من حديث يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على ثلاث؟" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات، "فمن وفى، فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً، فأدركه الله به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه" ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي إدريس عن عبادة: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً" الحديث.

وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، والله أعلم. وأما تفسيرها، فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم { قُلْ } لهم: { تَعَالَوْاْ } أي: هلموا وأقبلوا { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي: أقص عليكم، وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً، لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه، وأمراً من عنده { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق، وتقديره: وأوصاكم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ولهذا قال في آخر الآية: { ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وكما قال الشاعر:

حَجَّ وأَوْصى بسُلَيْمى الأَعْبُداأَنْ لا تَرى ولا تُكَلِّمْ أَحَداً
ولا يَزَلْ شرابُها مُبَرَّدا

وتقول العرب: أمرتك أن لا تقوم. وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك، دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن شرب الخمر" وفي بعض الروايات: أن قائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: "وإن رغم أنف أبي ذر" فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: "وإن رغم أنف أبي ذر" وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول تعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة، أتيتك بقرابها مغفرة، ما لم تشرك بي شيئاً، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك" ولهذا شاهد في القرآن، قال الله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } وفي صحيح مسلم: عن ابن مسعود: "من مات لا يشرك بالله شيئاً، دخل الجنة" والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وروى ابن مردويه: من حديث عبادة وأبي الدرداء: "لا تشركوا بالله شيئاً، وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم"

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثني سيار بن عبد الرحمن عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن الصامت، قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: "ألا تشركوا بالله شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم" رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: { وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً، أي: أن تحسنوا إليهم؛ كما قال تعالى: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء:23] وقرأ بعضهم: ووصّى ربُّك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً أي: أحسنوا إليهم، والله تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين؛ كما قال: { { أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [لقمان: 14-15] فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِىۤ إِسْرائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا } [البقرة: 83] الآية، والآيات في هذا كثيرة.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" ، قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدرداء وعن عبادة بن الصامت، كل منهما يقول: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا، فافعل" ولكن في إسناديهما ضعف، والله أعلم. وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلَـٰدَكُمْ مِّنْ إمْلَـٰقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلَـٰدَكُمْ مِّنْ إمْلَـٰقٍ } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم؛ كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } [الفرقان: 68] الآية. وقوله تعالى: { مِّنْ إمْلَـٰقٍ } قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيره: هو الفقر، أي: ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة الإسراء: { { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـٰقٍ } [الإسراء: 31] أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل، ولهذا قال هناك { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فبدأ برزقهم؛ للاهتمام بهم، أي: لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم، فهو على الله، وأما في هذه الآية، فلما كان الفقر حاصلاً، قال: { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأنه الأهم ههنا، والله أعلم، وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } كقوله تعالى: { { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33] وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: { { وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } [الأنعام: 120].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" وقال عبد الملك بن عمير عن ورّاد عن مولاه المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلاً، لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" أخرجاه، وقال كامل أبو العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله إنا نغار، قال: "والله إني لأغار، والله أغير مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش" رواه ابن مردويه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو على شرط الترمذي، فقد روي بهذا السند: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ فقد جاء في الصحيحين: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ، وفي لفظ لمسلم: "والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم" وذكره، قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله، وروى أبو داود والنسائي: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، ورجل قتل رجلاً متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" وهذا لفظ النسائي، وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس" فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه إذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فبم تقتلونني؟ رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد، وهو المستأمن من أهل الحرب، فروى البخاري: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: "من قتل معاهداً، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً" رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن صحيح، وقوله: { ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي: هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه.