يقول تعالى: وكما بيّنا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل، على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد، { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَـٰتِ } أي: التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها، { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل، وقرىء: (وليستبينَ سبيلَ المجرمين) أي: ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل المجرمين، وقوله: { قُلْ إِنِّى عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى } أي: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي: بالحق الذي جاءني من الله { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي: من العذاب { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي: إنما يرجع أمر ذلك إلى الله، إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجلكم؛ لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، ولهذا قال: { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ } أي: وهو خير من فصل القضايا، وخير الفاتحين في الحكم بين عباده، وقوله: { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي: لو كان مرجع ذلك إلي، لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك، والله أعلم بالظالمين، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال:
"لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك؛ لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم، من يعبد الله لا يشرك به شيئاً" وهذا لفظ مسلم، فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأل لهم التأخير؛ لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ ٱلأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ } فالجواب والله أعلم، أن هذه الآية دلت على أنه لوكان إليه وقوع العذاب، الذي يطلبونه حال طلبهم له، لأوقعه بهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم، وسأل الرفق لهم. وقوله تعالى: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }" [لقمان: 34] وفي حديث عمر: أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله له: "خمس لا يعلمهن إلا الله" ثم قرأ: { { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34] الآية. وقوله: { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } أي: يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات؛ بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما أحسن ما قال الصرصري:فَلا يَخْفى عليه الذَّرُّ إِمَّاتراءى لِلنَّواظِرِ أَوْ تَوارى
وقوله: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } أي: ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم؛ من جنهم وإنسهم؟ كما قال تعالى:
{ { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ } [غافر: 19]. وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد ابن مسروق، حدثنا حسان النمري، عن ابن عباس، في قوله: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } قال: ما من شجرة في بر ولا بحر، إلا وملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها، رواه ابن أبي حاتم، وقوله: { وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري، حدثنا مالك بن سعير، حدثنا الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة، إلا وعليها ملك موكل، يأتي الله بعلمها، رطوبتها إذا رطبت، ويبوستها إذا يبست، وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد ابن عبد الله الحساني، عن مالك بن سعير به. ثم قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي حذيفة، حدثنا سفيان عن عمرو بن قيس، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق الله النون، وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية: { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } إلى آخر الآية، قال محمد بن إسحاق: عن يحيى بن النضر، عن أبيه، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن، مالو أنهم ظهروا، يعني: لكم، لم تروا معهم نوراً، على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عز وجل، على كل خاتم ملك من الملائكة، يبعث الله عز وجل إليه في كل يوم ملكاً من عنده أن: احتفظ بما عندك.