يخبر تعالى عما توعد به فرعون - لعنه الله - السحرة، لما آمنوا بموسى عليه السلام، وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أي: إن غلبته لكم في يومكم هذا، إنما كان عن تشاور منكم، ورضاً منكم لذلك؛ كقوله في الآية الأخرى:
{ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } [طه: 71] وهو يعلم، وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل؛ فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين، دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر؛ ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده، ووعدهم بالعطاء الجزيل، ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك، والتقدم عند فرعون. وموسى عليه السلام لا يعرف أحداً منهم، ولا رآه، ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تستراً وتدليساً على رعاع دولته وجهلتهم؛ كما قال تعالى: { { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف: 54] فإن قوماً صدقوه في قوله: { { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ } [النازعات: 24] من أجهل خلق الله وأضلهم. وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى ٱلْمَدِينَةِ } قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك، أتؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني، لأومنن بك، ولأشهدن أنك حق، وفرعون ينظر إليهما، قالوا: فلهذا قال ما قال، وقوله: { لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أي: تجتمعوا أنتم وهو، وتكون لكم دولة وصولة، وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء، وتكون الدولة والتصرف لكم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي: ما أصنع بكم، ثم فسر هذا الوعيد بقوله: { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } يعني: يقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى، أو بالعكس، { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وقال في الآية الأخرى:
{ { فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71] أي: على الجذوع. قال ابن عباس: وكان أول من صلب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعونـ وقول السحرة: { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي: قد تحققنا أنا إليه راجعون، وعذابه أشد من عذابك، ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك، فلنصبرن اليوم على عذابك؛ لنخلص عن عذاب الله، ولهذا قالوا: { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي: عمنا بالصبر على دينك، والثبات عليه، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي: متابعين لنبيك موسى عليه السلام. وقالوا لفرعون:
{ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـٰيَـٰنَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلْعُلَىٰ } [طه: 72-75] فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة، قال ابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة وابن جريج: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء.