التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١٦
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
-الأعراف

تفسير القرآن العظيم

يخبر تعالى أنه لما أنذر إبليس { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي: كما أغويتني، قال ابن عباس: كما أضللتني، وقال غيره: كما أهلكتني، لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على { صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أي: طريق الحق، وسبيل النجاة، لأضلنهم عنها؛ لئلا يعبدوك، ولا يوحدوك؛ بسبب إضلالك إياي، وقال بعض النحاة: الباء هنا قسمية؛ كأنه يقول: فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم، قال مجاهد: صراطك المستقيم يعني: الحق، وقال محمد بن سوقة عن عون بن عبد الله: يعني: طريق مكة، قال ابن جرير: الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك، (قلت): لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عقيل، يعني: الثقفي عبد الله بن عقيل، حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجعد، عن سبرة بن أبي الفاكه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ قال: فعصاه وأسلم" قال: "قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتُنكَح المرأة، ويقسم المال؟ قال فعصاه وجاهد"

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن قتل، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" ، وقوله: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ }: أشككهم في آخرتهم { وَمِنْ خَلْفِهِمْ }: أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ }: أشبه عليهم أمر دينهم { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ }: أشهي لهم المعاصي، وقال ابن أبي طلحة في رواية والعوفي، كلاهما عن ابن عباس: أما من بين أيديهم، فمن قبل دنياهم، وأما من خلفهم، فأمر آخرتهم، وأما عن أيمانهم، فمن قبل حسناتهم، وأما عن شمائلهم، فمن قبل سيئاتهم، وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة، أتاهم من بين أيديهم، فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم: من أمر الدنيا، فزينها لهم، ودعاهم إليها، وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم، بطأهم عنها، وعن شمائلهم: زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها، أتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله، وكذا روي عن إبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة والسدي وابن جريج، إلا أنهم قالوا: من بين أيديهم: الدنيا، ومن خلفهم: الآخرة.

وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم: من حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم: حيث لا يبصرون، واختار ابن جرير: أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يحسنه لهم، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } ولم يقل: من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ } قال: موحدين، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع؛ كما قال تعالى: { { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } [سبأ:20-21] ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها؛ كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا نصر بن علي، حدثنا عمرو بن مجمع، عن يونس بن خباب، عن ابن جبير بن مطعم، يعني: نافع بن جبير، عن ابن عباس، وحدثنا عمر بن الخطاب، يعني: السجستاني، حدثنا عبيد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يونس بن خباب، عن ابن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي" تفرد به البزار، وحسنه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جرير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" قال وكيع: من تحتي، يعني: الخسف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.