التفاسير

< >
عرض

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ
٩
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
١٠
-الأنفال

تفسير القرآن العظيم

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الارض أبداً" قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يانبي الله كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ، التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً، وأسر منهم سبعون رجلاً، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟" قال: قلت: والله ما أرى ما رأىٰ أبو بكر، ولكني أرى أن تمكني من فلان ــــ قريب لعمر ــــ فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فَهَوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد، قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "للذي عرض علي أصحابك؛ من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: { { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلأَخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيِّباً } [الأنفال: 67-69] فأحل لهم الغنائم. فلما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله: { { أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 165] بأخذكم الفداء. ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار به، وصححه علي بن المديني والترمذي، وقالا: لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني، وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: أن هذه الآية الكريمة قوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد بن يثيع والسدي وابن جريج، وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو، فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله بعض مناشدتك، فوالله ليفين الله لك بما وعدك، قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } - إلى قوله - { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [الأنفال: 13]: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً، لأن أكون صاحبه، أحب إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: { { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [المائدة: 24] ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه، وسره، يعني: قوله. حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد" فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر" ورواه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي. وقوله تعالى: { بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي: يردف بعضهم بعضاً؛ كما قال هارون بن هبيرة عن ابن عباس: { مُرْدِفِينَ } متتابعين، ويحتمل أن المراد { مُرْدِفِينَ } لكم، أي: نجدة لكم؛ كما قال العوفي عن ابن عباس: { مُرْدِفِينَ } يقول: المدد؛ كما تقول أنت للرجل: زده كذا وكذا. وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارىء وابن زيد { مُرْدِفِينَ }: ممدين، وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس: { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال: وراء كل ملك ملك. وفي رواية بهذا الإسناد: { مُرْدِفِينَ } قال: بعضهم على أثر بعض، وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة. وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي عن أبي الحويرث عن محمد جبير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلموأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف مردفة بمثلها، ولهذا قرأ بعضهم: { مُرْدِفِينَ } بفتح الدال، والله أعلم. والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس، عن عمر الحديث المتقدم، ثم قال أبو زميل: حدثني ابن عباس قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقياً، قال: فنظر إليه، فإذا هو قد خُطم أنفُه، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة" فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. وقال البخاري: باب شهود الملائكة بدراً: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري. وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج، وهو خطأ، والصواب رواية البخاري، والله أعلم. وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟" وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } الآية، أي: وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، أي: بدون ذلك، ولهذا قال: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } كما قال تعالى: { { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد:4-6] وقال تعالى: { { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [آل عمران: 140-141] فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة؛ كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعاداً الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى، وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم، ثم أنزل على موسى التوراة، شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك؛ كما قال تعالى: { { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ } [القصص: 43] وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة: { { قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14] ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم، وأشفى لصدور حزب الإيمان، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة، بحيث لم يقربه أحد من أقاربه، إنما غسلوه بالماء قذفاً من بعيد، ورجموه حتى دفنوه، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } أي: له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة؛ كقوله تعالى: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ } } [غافر: 51] { حَكِيمٌ } فيما شرعه من قتال الكفار، مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.