التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٤
-الأنفال

تفسير القرآن العظيم

يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم؛ من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: { { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } [آل عمران: 154] الآية، قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف، وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلاّ نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري: عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان، وقال قتادة: النعاس في الرأس، والنوم في القلب، قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأمر ذلك مشهور جداً، وأما الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر، وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً، وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس؛ لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله، وهذا من فضل الله ورحمته بهم، ونعمته عليهم، وكما قال تعالى: { { فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ } [الشرح:5-6] ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسماً فقال: "أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: { { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45]. وقوله: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر - والمشركون بينهم وبين الماء - رملة دعصة، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ؛ يوسوس بينهم؛ تزعمون أنكم أولياء الله تعالى، وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون، وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجس الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاطوا ذلك في صدورهم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملؤوا الأسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهوراً، وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطر عليها، فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام. ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي، وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه طش أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك، أي: أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه، فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: "بل منزل نزلته للحرب والمكيدة" فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم، ونغور ما وراءه من القلب، ونستقي الحياض، فيكون لنا ماء، وليس لهم ماء، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كذلك. وفي مغازي الأموي: أن الحباب لما قال ذلك، نزل ملك من السماء، وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فقال: "هل تعرف هذا" ؟ فنظر إليه، فقال: ما كل الملائكة أعرفهم، وإنه ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازيرحمه الله : حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبَّدَ لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرحلوا معه. وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم، وثبتت به أقدامهم. وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر، يعني: الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله: { لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي: من حدث أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } أي: من وسوسة أو خاطر سيىء وهو تطهير الباطن؛ كما قال تعالى في حق أهل الجنة: { { عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [الإنسان: 21] فهذا زينة الظاهر { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي: مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض، وهو زينة الباطن وطهارته، { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } أي: بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن { وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم.

وقوله: { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم؛ ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد، أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم: أن يثبتوا الذين آمنوا. قال ابن إسحاق: وآزروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم. وقيل: كثروا سوادهم. وقيل: كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: سمعت هؤلاء القوم - يعني: المشركين - يقولون: والله لئن حملوا علينا، لننكشفن، فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك، فتقوى أنفسهم. حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه، وقوله: { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } أي: ثبتوا أنتم المؤمنين، وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك، سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي، { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: اضربوا الهام، ففلقوها، واحتزوا الرقاب، فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم، وهي أيديهم وأرجلهم. وقد اختلف المفسرون في معنى: { فَوْقَ ٱلأَعْنَـٰقِ } فقيل: معناه اضربوا الرؤوس، قاله عكرمة. وقيل: معناه، أي: على الأعناق، وهي الرقاب، قاله الضحاك وعطية العوفي، ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } [محمد: 4] وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق" واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام، قلت: وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول: "نُفَلِّق هاماً..." فيقول أبو بكر:

....من رجالٍ أعزَّةٍ عَلَيْناوهُمْ كانوا أَعَقَّ وأَظْلَما

فيبتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت، ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر؛ كما قال تعالى: { { وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ } [يس: 69]. وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان؛ مثل سمة النار قد أحرق به، وقوله: { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } وقال ابن جرير: معناه: واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم، والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر:

ألا لَيْتَني قُطِعَتْ مِنِّي بَنانَةٌولاقيتُهُ في البيتِ يَقْظانَ حاذِرا

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان: الأطراف. وكذا قال الضحاك وابن جرير. وقال السدي: البنان: الأطراف، ويقال: كل مفصل. وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى: كل مفصل، وقال الأوزاعي في قوله تعالى: { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال: اضرب منه الوجه والعين، وارمه بشهاب من نار، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك. وقال العوفي عن ابن عباس: فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلاً، ولكن خذوهم أخذاً، حتى تعرفوهم الذي صنعوا؛ من طعنهم في دينكم، ورغبتهم عن اللات والعزى، فأوحى الله إلى الملائكة: { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَـٰقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الآية، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً، وأسر عقبة بن أبي معيط، فقتل صبراً، فوفى ذلك سبعين، يعني: قتيلاً، ولهذا قال تعالى: { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: خالفوهما، فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق، ومأخوذ أيضاً من شق العصا، وهو جعلها فرقتين، { وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي: هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه، لا يفوته شيء، ولا يقوم لغضبه شيء، تبارك وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه { ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ } هذا خطاب للكفار، أي: ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا، واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.