التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٨
قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
٢٩
-التوبة

تفسير القرآن العظيم

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفي المشركين الذين هم نجس ديناً عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك، وحكم به شرعاً وقدراً. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } إلا أن يكون عبداً، أو أحداً من أهل الذمة. وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا شريك عن الأشعث، يعني: ابن سوار، عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل العهد وخدمهم" تفرد به الإمام أحمد مرفوعاً، والموقوف أصح إسناداً. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وقال عطاء: الحرم كله مسجد؛ لقوله تعالى: { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت على طهارة المؤمن؛ ولما ورد في الصحيح: "المؤمن لا ينجس" وأما نجاسة بدنه، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.

وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق، فأنزل الله: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك { إِن شَآءَ }، إلى قوله: { وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } أي: هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله مما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } أي: بما يصلحكم { حَكِيمٌ } أي: فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك وتعالى، ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة.

وقوله تعالى: { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاؤوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لوكانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً، لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء، وكفروا به، وهو أشرف الرسل، علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم، ولهذا قال: { قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، واستقامت جزيرة العرب، أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها وأقام على مائها قريباً من عشرين يوماً، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشبههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وقال أبو حنيفةرحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.

وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار؛ من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك. ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا، والله أعلم. وقوله: { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } أي: إن لم يسلموا { عَن يَدٍ } أي: عن قهر لهم وغلبة { وَهُمْ صَـٰغِرُونَ } أي ذليلون حقيرون مهانون، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة، ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروه إلى أضيقه" ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا، سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خططاً للمسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً، ولا نكتم غشاً للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركاً، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نمنع أحداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم؛ في قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولانكتني بكناهم، لا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا باعوثاً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم. قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نضرب أحداً من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم، ووظفنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.