هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ فقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ} أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ} أي: تكاسلتم، وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار {أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلأَخِرَةِ} أي: ما لكم فعلتم هكذا، أرضًى منكم بالدنيا بدلاً من الآخرة؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغب في الآخرة فقال: {فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلأَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟" وأشار بالسبابة. انفرد بإخراجه مسلم. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص، حدثنا الربيع بن روح، حدثنا محمد بن خالد الوهبي، حدثنا زياد، يعني: الجصاص، عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا هذه الآية {فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلأَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال الثوري عن الأعمش في الآية: {فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلاَْخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال: كزاد الراكب. وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة، قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع بين يديه، نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى، وهو يقول: أف لك من دار، إن كان كثيرك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور.
ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القطر، فكان عذابهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي: لنصرة نبيه؛ وإقامة دينه؛ كما قال تعالى:
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38]، {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي ولا تضروا الله شيئاً بتوليكم عن الجهاد، ونكولكم وتثاقلكم عنه، {وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم، وقد قيل: إن هذه الآية وقوله: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } [التوبة: 41] وقوله: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ } [التوبة: 120] إنهن منسوخات بقوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } [التوبة: 122] روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن، وزيد بن أسلم، ورده ابن جرير، وقال: إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، فتعين عليهم ذلك، فلو تركوه لعوقبوا عليه. وهذا له اتجاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.