التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
١٠١
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ
١٠٢
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠٣
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠٤
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٠٥
وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٦
وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٧
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
١٠٨
وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
١٠٩
-يونس

فتح القدير

.

قوله: { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ }: لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله، أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية، والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار، أي قل يا محمد للكفار: تفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته، وكمال قدرته. و{ ماذا } مبتدأ، وخبره { في السموات والأرض }. أو المبتدأ "ما"، و"ذا" بمعنى الذي، و{ في السموات والأرض } صلته، والموصول وصلته خبر المبتدأ، أي: أيّ شيء الذي في السموات والأرض، وعلى التقديرين فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها. ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته، فقال: { وَمَا تُغْنِى ٱلآيَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ } أي: ما تنفع على أن ما نافية، ويجوز أن تكون استفهامية: أي: أيّ شيء ينفع، والآيات هي التي عبر عنها بقوله: { مَاذَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } والنذر: جمع نذير، وهم: الرسل أو جمع إنذار، وهو المصدر { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } في علم الله سبحانه؛ والمعنى: أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء، ولا يدفعه عن الكفر دافع.

قوله: { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } أي: فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء، فقد كان الأنبياء المتقدّمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر، حتى ينزل الله عليهم عذابه، ويحلّ بهم انتقامه، ثم قال: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك { فَٱنتَظِرُواْ } أي: تربصوا لوعد ربكم، إني معكم من المتربصين لوعد ربي، وفي هذا تهديد شديد، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك، وثم في قوله: { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } للعطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم. وقرأ يعقوب ثم «ننجى» مخففاً. وقرأ كذلك أيضاً في { حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. وروي كذلك عن الكسائي وحفص في الثانية. وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان فصيحتان: أنجى ينجى إنجاء، ونجى ينجى تنجية بمعنى واحد { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } معطوف على رسلنا: أي: نجيناهم ونجينا الذين آمنوا، والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها { كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا } أي: حق ذلك علينا حقاً، أو إنجاء مثل ذلك الانجاء حقاً { نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } من عذابنا للكفار، والمراد بالمؤمنين: الجنس، فيدخل في ذلك الرسل وأتباعهم، أو يكون خاصاً بالمؤمنين، وهم أتباع الرسل؛ لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى.

قوله: { قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } أمر سبحانه رسوله بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين، مخاطباً لجميع الناس، أو للكفار منهم، أو لأهل مكة على الخصوص بقوله: إن كنتم في شك من ديني الذي أنا عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره، فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها { فَلاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } في حال من الأحوال { وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ } أي أخصه بالعبادة، لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها، وخصّ صفة المتوفى من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم: أي: أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أوّلاً، وعلى الإعادة ثانياً، ولكونه أشدّ الأحوال مهابة في القلوب، ولكونه قد تقدّم ذكر الإهلاك، والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة، فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله، بين أنه مأمور بالإيمان فقال: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: بأن أكون من جنس من آمن بالله، وأخلص له الدين.

وجملة: { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ } معطوفة على جملة { أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر؛ لأن المقصود من «أن» الدلالة على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية، أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء؛ كأنه قيل: كن مؤمناً ثم أقم؛ والمعنى: أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال. وخص الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة، وعدم التحوّل عنها. و{ حنيفاً } حال من الدين، أو من الوجه: أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام. ثم أكد الأمر المتقدّم للنهي عن ضدّه، فقال: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } وهو معطوف على { أقم }، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.

قوله: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } معطوف على { قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } غير داخل تحت الأمر، وقيل: معطوف على { ولا تكونن } أي: لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرّك بشيء من النفع والضرّ إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً، ولا يقدر على ضرّ ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضرّ غيره، فكيف إذا كان موجوداً؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح { فَإِن فَعَلْتَ } أي: فإن دعوت، ولكنه كنى عن القول بالفعل { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } هذا جزاء الشرط، أي فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم. والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم.

وجملة { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ } إلى آخرها مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى: أن الله سبحانه هو الضار النافع. فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان، بل هو المختص بكشفه كما اختصّ بإنزاله { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } أيّ: خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك، ويحول بينك وبينه كائناً من كان، وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بمالا يستحقونه بأعمالهم. قال الواحدي: إن قوله: { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } هو من القلب، وأصله وإن يرد بك الخير، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان لآخر. قال النيسابوري: وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير، والمسّ بجانب الشرّ دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات، والشرّ بالعرض. قلت: وفي هذا نظر، فإن المسّ هو أمر وراء الإرادة، فهو مستلزم لها، والضمير في { يصيب به } راجع إلى فضله: أي يصيب بفضله من يشاء من عباده. وجملة: { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } تذييلية.

ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره، فقال: { قُلْ ياأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ } أي: القرآن { فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي: منفعة اهتدائه مختصة به، وضرر كفره مقصور عليه لا يتعدّاه، وليس لله حاجة في شيء من ذلك، ولا غرض يعود إليه { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي: بحفيظ يحفظ أموركم، وتوكل إليه، إنما أنا بشير ونذير. ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله له، ولأمته، ثم أمره بالصبر على أذى الكفار، وما يلاقيه من مشاقّ التبليغ، وما يعانيه من تلوّن أخلاق المشركين وتعجرفهم، وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله: { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } أي: يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم، وفي الآخرة بعذابهم بالنار، وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته، المتبعون له المؤمنون به، العاملون بما يأمرهم به، المنتهون عما ينهاهم عنه، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد، ولا يمكن وصفه، ولا يوقف على أدنى مزاياه.

وقد أخرج أبو الشيخ، عن السديّ في قوله: { وَمَا تُغْنِى ٱلآيَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ } يقول: عند قوم { لاَ يُؤْمِنُونَ } نسخت قوله: { حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ فَمَا تُغْنِـى ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5]. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } قال: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم، قوم نوح، وعاد، وثمود. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الربيع في الآية قال: خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر نجى الله رسله والذين آمنوا، فقال: { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الآية. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } يقول: بعافية. وأخرج البيهقي في الشعب، عن عامر بن قيس، قال: ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهنّ عن جميع الخلائق: أوّلهنّ: { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ }، والثانية: { { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } [فاطر: 2]، والثالثة: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6]. وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، نحوه. وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } قال: هو الحق المذكور في قوله: { قَدْ جَاءكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ }. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، في قوله: { وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ } قال: هذا منسوخ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم.