التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٤٩
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ
٥٠
لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٥١
هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

فتح القدير

{ مُخْلِفَ } منتصب على أنه مفعول { تحسبنّ }، وانتصاب { رسله } على أنه مفعول { وعده }، قيل: وذلك على الاتساع، والمعنى: مخلف رسله وعده. قال القتيبي: هو من المقدّم الذي يوضحه التأخير. والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده، ومثل ما في الآية قول الشاعر:

ترى الثور فيها مدخل الظلّ رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع

وقال الزمخشري: قدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 9]. ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته. والمراد بالوعد هنا: هو ما وعدهم سبحانه بقوله: { { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51] و { { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [المجادلة: 21]. وقرىء "مخلف وعدهَ رسِله" بجرّ { رسله } ونصب { وعده }. قال الزمخشري: وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ: { قتل أولادهم شركائهم } [الأنعام: 137]. { إنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يغالبه أحد { ذُو ٱنتِقَامٍ } ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي، وقد مرّ تفسيره في أوّل آل عمران.

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } قال الزجاج: انتصاب { يوم } على البدل من { يوم يأتيهم }، أو على الظرف للانتقام. انتهى. ويجوز أن ينتصب بمقدّر يدل عليه الكلام، أي: واذكر، أو وارتقب، والتبديل قد يكون في الذات، كما في: بدّلت الدراهم دنانير، وقد يكون في الصفات كما في: بدّلت الحلقة خاتماً. والآية تحتمل الأمرين. وقد قيل: المراد: تغير صفاتها. وبه قال الأكثر، وقيل تغير ذاتها، ومعنى { *والسمٰوات } أي: وتبدّل السمٰوات غير السمٰوات على الاختلاف الذي مرّ { وَٱلسَّمَـٰوٰتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي: برز العباد لله، أو الظالمون كما يفيده السياق، أي: ظهروا من قبورهم، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه. والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله: { وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } [يس: 51، الزمر: 68، ق: 20] و{ الواحد القهار } المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده.

{ وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ } معطوف على { برزوا } أو على { تبدّل }، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة، والمجرمون هم: المشركون، و{ يومئذٍ } يعني: يوم القيامة، و { مُقْرِنِينَ } أي: مشدودين إما بجعل بعضهم مقروناً مع بعض، أو قرنوا مع الشياطين، كما في قوله: { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف: 36]. أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم، والأصفاد: الأغلال، والقيود. والجار والمجرور متعلق بمقرّنين، أو حال من ضميره. يقال: صفدته صفداً، أي: قيدته، والاسم: الصفد، فإذا أردت التكثير، قلت صَفَّدته. قال عمرو بن كلثوم:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

وقال حسان بن ثابت:

من بين مأسور يشدّ صفاده صقر إذا لاقى الكريهة حامي

ويقال: صفدته وأصفدته: إذا أعطيته. ومنه قول النابغة:

ولم أعرّض أبيت اللعن بالصفد

{ سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ } السرابيل: القُمص، واحدها سربال. ومنه قول كعب بن مالك:

تلقاكم عصب حول النبيّ لهم من نسج داود في الهيجا سرابيل

والقطران: هو قطران الإبل الذي تهنأ، به أي: قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم، حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل. وخصّ القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته. وقال جماعة: هو النحاس، أي: قمصانهم من نحاس. وقرأ عيسى بن عمر "من قطران" بفتح القاف، وتسكين الطاء. وقرىء بكسر القاف وسكون الطاء. وقرىء بفتح القاف والطاء. رويت هذه القراءة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويعقوب وهذه الجملة في محل نصب على الحال { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } أي: تعلو وجوههم وتضر بها؛ وخص الوجوه؛ لأنها أشرف ما في البدن، وفيها الحواس المدركة، والجملة في محل نصب على الحال أيضاً، و { لّيَجْزِىَ ٱللَّهُ } متعلق بمحذوف، أي: يفعل ذلك بهم ليجزي { كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من المعاصي، أي: جزاء موافقاً لما كسبت من خير أو شرّ { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لا يشغله عنه شيء. وقد تقدّم تفسيره.

{ هَـٰذَا بَلَـٰغٌ } أي: هذا الذي أنزل إليك بلاغ، أي: تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير. قيل: إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله: { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً } إلى{ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي: هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة. وقيل: الإشارة إلى جميع السورة. وقيل: إلى القرآن. ومعنى: { لِلنَّاسِ } للكفار، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله: { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ }، { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } معطوف على محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا به، والمعنى: وليخوفوا به، وقرىء (ولينذروا) بفتح الياء التحتية والذال المعجمة. يقال: نذرت بالشيء أنذر: إذا علمت به فاستعددت له. { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي: ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقاً وحدانية الله سبحانه، وأنه لا شريك له { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } أي: وليتعظ أصحاب العقول. وهذه اللامات متعلقة بمحذوف، والتقدير: وكذلك أنزلنا، أو متعلقة بالبلاغ المذكور، أي: كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه، وأنه لا شريك له، وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك.

وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ } قال: عزيز والله في أمره، يملي وكيده متين، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة. وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان، قال: «جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في "الظلمة دون الجسر". وأخرج مسلم أيضاً وغيره من حديث عائشة، قالت: أنا أوّل من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } قالت: أين الناس يومئذٍ؟ قال: "على الصراط" . وأخرج البزار، وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، وابن عساكر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } قال: "أرض بيضاء، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل بها خطيئة" . وأخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عنه موقوفاً نحوه، قال البيهقي: والموقوف أصح.

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أتى اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } قال: أرض بيضاء كالفضة، فسألهم فقالوا: أرض بيضاء كالنقيّ" . وأخرج ابن مردويه مرفوعاً عن عليّ نحو ما تقدّم عن ابن مسعود. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن أنس موقوفاً نحوه، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي" وفيهما أيضاً من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده..." الحديث.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ } قال: الكبول. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في { الأصفاد } قال: القيود والأغلال. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في السلاسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فِى ٱلأَصْفَادِ } يقول: في وثاق.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { سَرَابِيلُهُم } قال: قمصهم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: { مّن قَطِرَانٍ } قال: قطران الإبل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: هذا القطران يطلى به حتى يشتعل ناراً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو النحاس المذاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ { مّن قَطِرَانٍ } فقال: القطر: الصفر، والآن: الحارّ. وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" . وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ } قال: القرآن، { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } قال: القرآن.