التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ
٧٨
فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
٧٩
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٨٠
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٨١
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ
٨٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
٨٣
فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٤
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ
٨٥
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨٦
-الحجر

فتح القدير

قوله: { وَإِن كَانَ أَصْحَـٰبُ ٱلأَيْكَةِ } "إن" هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، أي: وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. والأيكة: الغيضة، وهي جماع الشجر. والجمع: الأيك. ويروى أن شجرهم كان دوماً، وهو المقل، فالمعنى: وإن كان أصحاب الشجر المجتمع. وقيل: الأيكة: اسم القرية التي كانوا فيها. قال أبو عبيدة: الأيكة، وليكة: مدينتهم كمكة وبكة، وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، وقد تقدّم خبرهم، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق، والضمير في { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } يرجع إلى مدينة قوم لوط، ومكان أصحاب الأيكة، أي: وإن المكانين لبطريق واضح. والإمام: اسم لما يؤتمّ به، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. قال الفراء والزجاج: سمي الطريق إماماً، لأنه يؤتمّ ويتبع. وقال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتمّ به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده. وقيل: الضمير للأيكة ومدين، لأن شعيباً كان ينسب إليهما.

ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال: { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـٰبُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } الحجر: اسم لديار ثمود، قاله الأزهري. وهي ما بين مكة وتبوك. وقال ابن جرير: هي أرض بين الحجاز والشام. وقال: { المرسلين }، ولم يرسل إليهم إلاّ صالح؛ لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله. وقيل: كذبوا صالحاً ومن تقدّمه من الأنبياء. وقيل: كذبوا صالحاً، ومن معه من المؤمنين { وَءاتَيْنَـٰهُمْ ءايَـٰتِنَا } أي الآيات المنزلة على نبيهم، ومن جملتها: الناقة. فإن فيها آيات جمة، كخروجها من الصخرة، ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها { فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي: غير معتبرين، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم.

{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا } النحت في كلام العرب: البري والنجر، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي: براه، وفي التنزيل: { { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [الصافات: 95] أي: تنجرون. وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتاً، أي: يخرقونها في الجبال. وانتصاب { ءامِنِينَ } على الحال. قال الفراء: آمنين من أن ينقع عليهم، وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب ركوناً منهم على قوّتها ووثاقتها. { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي: داخلين في وقت الصبح. وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف، وفي هود، وتقدم أيضاً قريباً.

{ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي: لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال.

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ } أي: متلبسة بالحق، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح، وقيل: المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه: { وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ * لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم: 31]. وقيل: المراد بالحق: الزوال؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، وفيه وعيد للعصاة وتهديد، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه، فقال: { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } أي: تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً. وقيل: فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. قيل: وهذا منسوخ بآية السيف { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ } أي: الخالق للخلق جميعاً، العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم.

وقد أخرج ابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً" . وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة. ذات آجام وشجر كانوا فيها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأيكة: الغيضة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: أصحاب الأيكة: أهل مدين، والأيكة: الملتفة من الشجر. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأيكة: مجمع الشيء. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال في قوله: { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } طريق ظاهر.

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال: أصحاب الوادي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كان أصحاب الحجر ثمود وقوم صالح. وأخرج البخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلاّ أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" . وأخرج ابن مردويه عنه قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، وعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال: "إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، فلا تدخلوا عليهم". وأخرج ابن مردويه، عن سبرة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالحجر لأصحابه: "من عمل من هذا الماء شيئاً فليلقه" . قال: ومنهم من عجن العجين، ومنهم من حاس الحيس.

وأخرج ابن مردويه، وابن النجار عن عليّ في قوله: { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } قال: الرضا بغير عتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال: هذه الآية قبل القتال. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله.