التفاسير

< >
عرض

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٩٢
وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٩٣
وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٩٤
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٩٥
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٦
-النحل

فتح القدير

خصّ سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } الوفاء بالعهد، فقال: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره. وخصّ هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله. ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود، لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وفسره بعضهم باليمين، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأَيمان بعده حيث قال سبحانه: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي: بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأَيمان المؤكدة، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه. فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها. يقال: وكد وأكد توكيداً وتأكيداً، وهما لغتان. وقال الزجاج: الأصل الواو، والهمزة بدل منها، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم فقال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" ، حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: «والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ويخصّ أيضاً من هذا العموم يمين اللغو، لقوله سبحانه: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ } [البقرة: 225] ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو. وقد تقدّم بسط الكلام على الأَيمان في البقرة. { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي: شهيداً. وقيل: حافظاً. وقيل: ضامناً. وقيل: رقيباً؛ لأن الكفيل يراعي حال المكفول به. وقيل: إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً. وحكى القرطبي عن ابن عمر: أن التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بحسب ذلك، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، وفيه ترغيب وترهيب.

ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض، فقال: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض، بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها، أي: ما غزلته { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } أي: من بعد إبرام الغزل وإحكامه، وهو متعلق بـ { نقضت } { أَنكَـٰثًا } جمع نكث بكسر النون، ما ينكث فتله. قال الزجاج: انتصب { أنكاثاً } على المصدر؛ لأن معنى نقضت: نكثت. وردّ بأن { أنكاثاً } ليس بمصدر، وإنما هو جمع كما ذكرنا. وقال الواحدي: هو منصوب على أنه مفعول ثانٍ كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء، أي: جعلته أقطاعاً وأجزاء. ويحتمل أن يكون حالاً. قال ابن قتيبة: هذه الآية متعلقة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأَيمان، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً.

وجملة { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } في محل نصب على الحال. قال الجوهري: والدخل: المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وقيل: الدخل ما أدخل في الشيء على فساده. وقال الزجاج: غشاً وغلاً { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي: بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة، أي: أكثر عدداً منها وأوفر مالاً. يقال: ربا الشيء يربو إذا كثر، قال الفراء: المعنى: لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم، أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عزرتموهم بالأَيمان. قيل: وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم، نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم. وقيل: هو تحذير للمؤمنين أن يغترّوا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

{ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } أي: يختبركم بكونكم أكثر وأوفر، لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء، أم تنقضون اغتراراً بالكثرة؟ فالضمير في { به } راجع إلى مضمون جملة: { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي: إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة، ليعلم ما تصنعون، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم. { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيوضح الحق والمحقين، ويرفع درجاتهم، ويبين الباطل والمبطلين، فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه. وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل. أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار. ثم بيّن سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال: { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } متفقة على الحق { وَلَـٰكِنِ } بحكم الإلهية { يُضِلُّ مَن يَشَاء } بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم { { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء: 23]. ولهذا قال: { ولتسألن عما كنتم تعملون } من الأعمال في الدنيا، واللام في { وليبيننّ لكم } وفي { ولتسألنّ } هما الموطئتان للقسم.

ثم لما نهاهم سبحانه عن نقض مطلق الأيمان، نهاهم عن نقض أيمان مخصوصة، فقال: { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } وهي أيمان البيعة. قال الواحدي: قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد على الإسلام ونصرة الدين. واستدلوا على هذا التخصيص بما في قوله: { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } من المبالغة، وبما في قوله: { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوء بِمَا صَدَدتُّمْ } لأنهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّوا غيرهم عن الدخول في الإسلام. وعلى تسليم أن هذه الأيمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سبب نزول هذه الآية، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال جماعة من المفسرين: إن هذا تكرير لما قبله، لقصد التأكيد والتقرير. ومعنى { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ قدم من اتخذ يمينه دخلاً عن محجة الحق { بعد ثبوتها } عليها ورسوخها فيها. قيل: وأفرد القدم للإيذان بأن زلل قدم واحد، أيّ قدم كانت عزّت أو هانت محذور عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وهذا استعارة للمستقيم الحال، يقع في شرّ عظيم ويسقط فيه، لأن القدم إذا زلت، نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرّ. ويقال لمن أخطأ في شيء: زلت به قدمه، ومنه قول الشاعر:

تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعل

{ وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوء بِمَا صَدَدتُّمْ } أي: تذوقوا العذاب السيء في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما بما صددتم { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: بسبب صدودكم أنتم عن سبيل الله، وهو الإسلام، أو بسبب صدّكم لغيركم عن الإسلام، فإن من نقض البيعة وارتدّ، اقتدى به غيره في ذلك، فكان فعله سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا قال: { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: متبالغ في العظم، وهو عذاب الآخرة إن كان المراد بما قبله عذاب الدنيا.

ثم نهاهم سبحانه عن الميل إلى عرض الدنيا والرجوع عن العهد لأجله فقال: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي: لا تأخذوا في مقابلة عهدكم عوضاً يسيراً حقيراً. وكل عرض دنيوي وإن كان في الصورة كثيراً، فهو لكونه ذاهباً زائلاً يسير، ولهذا ذكر سبحانه بعد تقليل عرض الدنيا خيرية ما عند الله فقال: { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: ما عنده من النصر في الدنيا والغنائم والرزق الواسع، وما عنده في الآخرية من نعيم الجنة الذي لا يزول ولا ينقطع هو خير لهم. ثم علل النهي عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، وأن ما عند الله هو خير لهم بقوله: { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الأشياء.

ثم ذكر دليلاً قاطعاً على حقارة عرض الدنيا وخيرية ما عند الله فقال: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } ومعلوم لكل عاقل أن ما ينفد ويزول وإن بلغ في الكثرة إلى أي مبلغ فهو حقير يسير، وما كان يبقى ولا يزول فهو كثير جليل. أما نعيم الآخرة فظاهر، وأما نعيم الدنيا الذي أنعم الله به على المؤمنين فهو وإن كان زائلاً، لكنه لما كان متصلاً بنعيم الآخرة، كان من هذه الحيثية في حكم الباقي الذي لا ينقطع، ثم قال: { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } اللام هي الموطئة، أي: لنجزينهم بسبب صبرهم على ما نالهم من مشاقّ التكليف وجهاد الكافرين والصبر على ما ينالهم منهم من الإيذاء بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات. قيل: وإنما خصّ أحسن أعمالهم؛ لأن ما عداه وهو الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعة، وقيل: المعنى: ولنجزينهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم، كقوله: { { مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]، أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم على معنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأعلى من أعمالهم المذكورة ما نعطيهم بمقابلة الفرد الأعلى منها من الجزاء الجزيل، لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن، والأحسن بالأحسن، كذا قيل. قرأ عاصم وابن كثير { لنجزين } بالنون. وقرأ الباقون بالياء التحتية.

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في قوله: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } قال: أنزلت هذه الآية في بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنّ من أسلم بايع على الإسلام، فقال: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ... } الآية، فلا يحملنكم قلة محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يقول: بعد تغليظها. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه.

وأخرج ابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أن سعيدة الأسدية كانت تجمع الشعر والليف، فنزلت فيها هذه الآية { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا }. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص مثله. وفي الروايتين جميعاً أنها كانت مجنونة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدّي في سبب نزول الآية، قال: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة كانت تغزل فإذا أبرمت غزلها نقضته. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير معناه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } قال: ناس أكثر من ناس. وأخرجوا عن مجاهد في الآية قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ، فنهوا عن ذلك.