التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
١٨
-البقرة

فتح القدير

{ مّثْلُهُمْ } مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله { كَمَثَلِ } لأنها اسم: أي مثل، مثل كما في قول الأعشى:

أتنتهون ولن تنهى ذوى شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقول

امرىء القيس:

ورحنا بِكَابنِ الماء يجنب وسطنا تصوّب فيه العين طوراً وترتقى

أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل: الشبه، والمثلان: المتشابهان و{ ٱلَّذِى } موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب، كقول الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أمّ خالد

ومنه { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [التوبة: 69] ومنه { وَٱلَّذِى جَاء بِٱلصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33]. ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهيبها، و{ استوقد } بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر:

ودَاعٍ دَعا يا من يُجيب إلى الندا فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ

أي: يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و{ مَا حَوْلَهُ } قيل ما زائدة. وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية، و{ ذَهَبَ } من الذهاب، وهو زوال الشيء. و{ *تركهم } أي: أبقاهم { ظُلُمَـٰتٍ } جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور. و{ صُمٌّ } وما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. وقرأ ابن مسعود "صماً بكماً عمياً" بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله { تركهم }. والصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوّفة،. وصممت القارورة: إذا سددتها، وفلان أصمّ: إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم، فهو الأخرس. وقيل الأخرس والأبكم واحد. والعمى: ذهاب البصر. والمراد بقوله: { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي: إلى الحق، وجواب لما في قوله: { فَلَمَّا أَضَاءتْ }، قيل هو: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } وقيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر.

ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم «للباطل صولة ثم يضمحلّ» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته، ومواعظه.

قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]. وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى: { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [المنافقون: 3]. قال ابن جرير: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5].

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } يقول: في عذاب { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } فهم لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قالوا: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } قال: ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن والسدي، والربيع بن أنس نحو ما تقدم.