التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

فتح القدير

قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا } هو في محل نصب بعامل مقدر، هو: اذكروا، كما تقدم غير مرة. وقد تقدّم تفسير الميثاق، والمراد: أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة، وبما هو أعم من ذلك، أو أخص. والطور: اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة فيه. وقيل: هو: اسم لكل جبل بالسريانية. وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم: اسم خذوها، والتزموها. فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فُصعِقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، والتزموها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتُوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم خذوها، وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق. p>> قال ابن جرير عن بعض العلماء: لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان، لا أنهم آمنوا كرهاً، وقلوبهم غير مطمئنة. انتهى. وهذا تكلُّف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا، أو أشد منه، ونحن نقول: أكرههم الله على الإيمان، فآمنوا مكرهين، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام، والسيف مصلت قد هزَّه حامله على رأسه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية، ولم تكن عن قصد صحيح: "أأنت فتشت عن قلبه" وقال: "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس" وقوله: { خُذُواْ } أي: وقلنا لهم: { خذوا مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ } والقوّة: الجدّ والاجتهاد. والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به.p>> قوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أصل التولي: الإدبار عن الشيء، والإعراض بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً، والمراد هنا: إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم، وقوله: { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي: من بعد البرهان لهم، والترهيب بأشد ما يكون، وأعظم ما تجوزه العقول، وتقدر الأفهام، وهو: رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة عليهم. وقوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } بأن تدارككم بلطفه، ورحمته، حتى أظهرتم التوبة لخسرتم. والفضل: الزيادة. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة، والخير، والإفضال: الإحسان. انتهى. والخسران: النقصان، وقد تقدم تفسيره. p>> والسبت في أصل اللغة: القطع؛ لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل. وقيل: هو: مأخوذ من السبوت، وهو الراحة، والدعة. وقال في الكشاف: "السبت مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت يوم السبت". انتهى. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين: ففرقة اعتدت في السبت: أي: جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه، فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين. ففرقة جاهرت بالنهي، واعتزلت، وفرقة لم توافق المعتدين، ولا صادوا معهم، لكنهم جالسوهم، ولم يجاهروهم بالنهي، ولا اعتزلوا عنهم، فمسخهم الله جميعاً، ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط، وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة، وعاندوا أنبياءهم، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم، وسخف عقولهم، وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف، وشعبة من شعب التكلف، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم } [الأعراف: 163] فاحتالوا لصيدها، وحفروا الحفائر، وشقوا الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت، فيصيدونها يوم الأحد، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة. والخاسىء: المبعد، يقال: خسأته، فخسأ، وخسيء، وانخسأ: أبعدته، فبعد. ومنه قوله تعالى: { { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } [الملك: 4] أي: مبعداً. وقوله: { { ٱخْسَئُواْ فِيهَا } [المؤمنون: 108] أي: تباعدوا تباعد سخط، ويكون الخاسىء بمعنى الصاغر. والمراد هنا: كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين، فقردة خبر الكون، وخاسئين خبر آخر، وقيل: إنه صفة لقردة، والأوّل أظهر.p>> واختلف في مرجع الضمير في قوله: { فَجَعَلْنَاهَا } وفي قوله: { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } فقيل: العقوبة. وقيل: الأمة، وقيل: القرية. وقيل: القردة. وقيل الحيتان. والأول أظهر. p>> والنكال: الزجر والعقاب، والنكل: القيد؛ لأنه يمنع صاحبه، ويقال للجام الدابة نكل؛ لأنه يمنعها. والموعظة: مأخوذة من الاتعاظ، والانزجار، والوعظ: التخويف. وقال الخليل: الوعظ التذكير بالخير. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وكان بنو إسرائيل أسفل منه. وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت، فليس بطور. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: { خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ } قال: أي بجدّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } قال: اقرءوا ما في التوراة، واعملوا به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال: لعلكم تنزعون عما أنتم عليه. p>> وأخرج ابن جرير عنه قال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } أي: عرفتم { واعتدوا } يقول: اجترءوا في السبت بصيد السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: انقطع ذلك النسل. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو: مثل ضربه الله لهم كقوله: { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5] وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية، قال: أحلت لهم الحيتان، وحرّمت عليهم يوم السبت، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، فكان فيهم ثلاثة أصناف، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { خَـٰسِئِينَ } قال: ذليلين. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: { خَـٰسِئِينَ } قال: صاغرين. وأخرج ابن جرير، عن مجاهد مثله. p>> وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فَجَعَلْنَـٰهَا نَكَـٰلاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من القرى { وَمَا خَلْفَهَا } من القرى: { وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عنه: { فَجَعَلْنَاهَا } يعني الحيتان { نَكَـٰلاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } من الذنوب التي عملوا قبل وبعد. وأخرج ابن جرير عنه: { فَجَعَلْنَاهَا } قال: جعلنا تلك العقوبة، وهي المسخة { نَكَـٰلاً } عقوبة { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي { وَمَا خَلْفَهَا } يقول: للذين كانوا معهم { وَمَوْعِظَةً } قال: تذكرة، وعبرة للمتقين.