التفاسير

< >
عرض

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١١٠
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

فتح القدير

قوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، و"كان" قيل: هي التامة، أي: وجدتم، وخلقتم خير أمة، ومثله ما أنشده سيبويه:

وَجِيرانٍ لَنا كَانُوا كرام

ومنه قوله تعالى { { كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [مريم: 29] وقوله: { { وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } [الأعراف: 86]. وقال الأخفش: يريد أهل أمة: أي خير أهل دين، وأنشد:

فحلفتُ فلم أتْركْ لِنَفْسِك رِيبةً وَهَلْ يْأثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوطَائِعَ

وقيل: معناه: كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم منذ آمنتم. وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها. كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم. قوله: { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } أي: أظهرت لهم. وقوله: { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك، واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد: إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون، وما بعده في محل نصب على الحال أي: كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه، ورسوله، وما شرعه لعباده، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور. قوله: { وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله، ورسله وكتبه: { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ بل قالوا: نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله: { مّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه، وما أنزل من قبله: { وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } أي: الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً، عن سؤال مقدر، كأنه قيل: هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله. قوله: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أي: لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى، وهو الكذب، والتحريف، والبهت، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب، والنهب، ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، وهذا وعد من الله لرسوله، وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، وقيل: الاستثناء منقطع. والمعنى: لن يضروكم ألبتة لكي يؤذونكم، ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله: { وَإِن يُقَـٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأدُبَارَ } أي: ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم. وقوله: { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } عطف على الجملة الشرطية، أي: ثم لا يوجد لهم نصر، ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا. وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية، فهي من معجزات النبوة. قوله: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ } قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب. والمعنى: صارت الذلة محيطة بهم في كل حال، وعلى كل تقدير في أي مكان وجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ } أي: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، قاله الفراء: أي: بذمة الله، أو بكتابه { وَحَبْلٍ مّنَ ٱلنَّاسِ } أي: بذمة من الناس، وهم المسلمون، وقيل المراد بالناس: النبي صلى الله عليه وسلم { وَبَاءوا } أي: رجعوا { بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ } وقيل: احتملوا، وأصل معناه في اللغة اللزوم، والاستحقاق، أي: لزمهم غضب من الله هم مستحقون له. ومعنى ضرب المسكنة: إحاطتها بهم من جميع الجوانب، وهكذا حال اليهود، فإنهم تحت الفقر المدقع، والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم. والإشارة بقوله { ذلك } إلى ما تقدم من ضرب الذلة، والمسكنة، والغضب، أي: وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، والإشارة بقوله: { ذلك } إلى الكفر، وقتل الأنبياء بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم لحدوده. ومعنى الآية: أن الله ضرب عليهم الذلة، والمسكنة، والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه بسبب عصيانهم، واعتدائهم.

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن عباس في قوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في الآية قال: قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال: أنتم فكنا كلنا، ولكن قال { كنتم } في خاصة أصحاب محمد، ومن صنعهم مثل صنعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس، وفي لفظ عنه أنه قال: يكون لأولنا، ولا يكون لآخرنا. وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية، ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. وأخرج البخاري، وغيره، عن أبي هريرة في الآية قال: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، عن معاوية بن حيدة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الآية: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها" . وروى من حديث معاذ، وأبي سعيد نحوه. وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، ولا عذاب، وهذا من فوائد كونها خير الأمم.

وأخرج ابن جرير عن الحسن: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } قال: تسمعون منهم كذباً على الله بدعوتكم إلى الضلالة. وأخرج أيضاً، عن ابن جريج قال: إشراكهم في عزير، وعيسى، والصليب. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، وقتادة: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ } قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وروى ابن المنذر، عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ٱلنَّاسِ } قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.