التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٦٥
وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٦٦
وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
١٦٧
ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٦٨
-آل عمران

فتح القدير

قوله: { أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف. والمصيبة: الغلبة، والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد: { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون. وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فكان مجموع القتلى، والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد، والمعنى: أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم، وقلتم: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا بالنصر؟. وقوله: { أَنَّىٰ هَـٰذَا } أي: من أين أصابنا هذا الانهزام، والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم؟ وقوله: { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب، أي: هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال، وقيل: إن المراد بقوله: { هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } خروجهم من المدينة. ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك؛ وقيل: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل،

و{ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } يوم أحد، أي: ما أصابكم يوم أحد من القتل، والجرح، والهزيمة { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } فبعلمه، وقيل: بقضائه، وقدره، وقيل: بتخليته بينكم، وبينهم، والفاء دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط، كما قال سيبويه. وقوله: { وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } عطف على قوله: { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } عطف سبب على سبب.

وقوله: { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ } عطف على ما قبله، قيل: أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم، وإلى المنافقين، واحداً. والمراد بالعلم هنا: التمييز والإظهار؛ لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك؛ والمراد بالمنافقين هنا: عبد الله بن أبيّ وأصحابه. قوله: { وَقِيلَ لَهُمْ } هو معطوف على قوله: { نَافَقُواْ } أي: ليعلم الله الذين نافقوا، والذين قيل لهم، وقيل: هو كلام مبتدأ أي: قيل لعبد الله بن أبيّ، وأصحابه: { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } إن كنتم ممن يؤمن بالله، واليوم الآخر { أَوِ ٱدْفَعُواْ } عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله، واليوم الآخر، فأبوا جميع ذلك، وقالوا: لو نعلم أنه سيكون قتالاً لاتبعناكم، وقاتلنا معكم، ولكنه لا قتال هنالك؛ وقيل: المعنى: لو كنا نقدر على القتال، ونحسنه لاتبعناكم؛ ولكنا لا نقدر على ذلك، ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به؛ لكونها مستلزمة له، وفيه بعد لا ملجىء إليه، وقيل: معناه: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لعدم القدرة منا، ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم، والخروج من المدينة، وهذا أيضاً فيه بعد دون بعد ما قبله، وقيل: معنى الدفع هنا: تكثير سواد المسلمين، وقيل: معناه: رابطوا، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه: هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، والد جابر بن عبد الله.

قوله: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ } أي: هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون؛ لأنهم قد بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، وقيل المعنى: أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. قوله: { يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدّمها، أي: أنهم أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، وذكر الأفواه للتأكيد، مثل قوله: { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38].

قوله: { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ } الخ، أي: هم الذين قالوا لإخوانهم على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون بدلاً من واو يكتمون، أو منصوباً على الذمّ، أو وصف للذين نافقوا. وقد تقدم معنى: { قَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ } أي: قالوا لهم ذلك، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال: { لَوْ أَطَاعُونَا } بترك الخروج من المدينة ما قتلوا، فردّ الله عليهم ذلك بقوله: { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } والدرء: الدفع، أي: لا ينفع الحذر من القدر، فإن المقتول يقتل بأجله.

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ... } الآية. يقول: إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد، وقد بين هذا عكرمة. فأخرج ابن جرير عنه قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا؟ فلما رأى الله ما قالوا من ذلك، قال الله: هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر. فردّهم الله بذلك، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه، عن عليّ قال: جاء جبريل إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا، فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقبل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا، وإخواننا لا بل نأخذ، فداءهم، فنقوى به على قتال عدوّنا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر. وهذا الحديث هو في سنن الترمذي، والنسائي هو من طريق أبي داود الحضري عن يحيـى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سفيان بن سعيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة عن عليّ: قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشام نحوه. وروى عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن عون قال سنيد وهو حسين، وحدثني حجاج، عن جرير، عن محمد، عن عبيدة، عن علي فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، عن عمر بن الخطاب؛ قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عنه، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عزّ وجلّ: { أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } الآية. وأخرجه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن غزوان، وهو قراد أبو نوح به، ولكن بأطول منه، ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله: { { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأرْضِ } [الأنفال: 67] وما روى من بكائه صلى الله عليه وسلم، هو وأبو بكر ندماً على أخذ الفداء، ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الندم، والحزن، ولا صوب النبي صلى الله عليه وسلم رأي عمر رضي الله عنه، حيث أشار بقتل الأسرى، وقال ما معناه: "لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر،" والجميع في كتب الحديث، والسير.

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: { قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا } ونحن مسلمون نقاتل غضباً لله، وهؤلاء مشركون. فقال: { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: لا تتبعوهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: { أَوِ ٱدْفَعُواْ } قال: كثروا بأنفسكم، وإن لم تقاتلوا. وأخرج أيضاً، عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي عون الأنصاري في قوله: { أَوِ ٱدْفَعُواْ } قال: رابطوا. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن شهاب وغيره؛ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد، والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم، وعصاني، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا؟ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق، وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم، وقومكم عندما حضرهم عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولا نرى أن يكون قتال. وأخرجه ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيـى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحسين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، فذكره، وزاد أنهم: لما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـٰكُمْ } قال: لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم.