التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
-آل عمران

فتح القدير

قوله: { لاَّ يَتَّخِذِ } فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى: { { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ... } الآية [آل عمران: 118]، وقوله: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة: 51]، وقوله: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } الآية، [المجادلة: 22] وقوله: { { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء } [المائدة: 51]، وقوله: { { ٱ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة: 1] وقوله: { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } في محل الحال، أي: متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً، أو اشتراكاً، والإشارة بقوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } إلى الاتخاد المدلول عليه بقوله: { لاَّ يَتَّخِذِ } ومعنى قوله: { فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَىْء } أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال. قوله: { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } على صيغة الخطاب بطريق الالتفات، أي: إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه، وهو: استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وتقاة مصدر واقع موقع المفعول، وأصلها وقية على وزن فعلة قلبت الواو تاء، والياء ألفاً، وقرأ رجاء، وقتادة "تقية". وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً. وخالف في ذلك قوم من السلف، فقالوا: لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. قوله: { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } أي: ذاته المقدسة، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة، كقوله: { { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [المائدة: 116] وفي غيرها. وذهب بعض المتأخرين، إلى منع ذلك إلا مشاكلة. وقال الزجاج: معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا، وصار المستعمل. قال: وأما قوله: { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك، ولا ما في حقيقتك. وقال بعض أهل العلم: معناه: ويحذركم الله عقابه مثل { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي هذه الآية تهديد شديد، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.

قوله: { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ... } الآية: فيه أن كل ما يضمره العبد، ويخفيه، أو يظهره، ويبديه، فهو معلوم لله سبحانه، لا يخفى عليه منه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة: { وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } مما هو أعم من الأمور التي يخفونها، أو يبدونها، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك.

قوله: { يَوْمَ تَجِدُ } منصوب بقوله: { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } وقيل: بمحذوف، أي: اذكر، و { مُّحْضَرًا } حال، وقوله: { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } معطوف على "ما" الأولى: أي: وتجد ما عملت من سوء محضراً تود لو أن بينها، وبينه أمداً بعيداً. فحذف محضراً لدلالة الأول عليه، وهذا إذا كان { تجد } من وجدان الضالة، وأما إذا كان من وجد بمعنى علم كان محضراً، هو المفعول الثاني، ويجوز أن يكون قوله: { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } جملة مستأنفة، ويكون «ما» في: { ما عملت } مبتدأ، ويودّ: خبره. والأمد: الغاية، وجمعه آماد: أي: تودّ لو أن بينها، وبين ما عملت من السوء أمداً بعيداً، وقيل: إن قوله: { يَوْمَ تَجِدُ } منصوب بقوله: { تَوَدُّ } والضمير في قوله: { وَبَيْنَهُ } لليوم، وفيه بُعْد، وكرر قوله: { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } للتأكيد، وللاستحضار؛ ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم، وفي قوله: { وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ } دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفاً بهم. وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له: إنك تموت، وتبعث، وترجع إلى، الله فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر، فأنزل الله فيهم: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } إلى قوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ }. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عنه قال: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، ويتخذوهم، وليجة من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى: { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً }. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَىْء } فقد بريء الله منه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } قال: التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به، وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عنه في الآية قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان، ولا يبسط يده، فيقتل، ولا إلى إثم، فإنه لا عذر له. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في الآية قال: التقية باللسان، وليس بالعمل. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } قال إلا أن يكون بينك، وبينه قرابة، فتصله لذلك. وأخرج عبد بن حميد، والبخاري، عن الحسن قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا نبش في وجوه أقوام، وقلوبنا تلعنهم، ويدل على جواز التقية، قوله تعالى: { { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106]. ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء، والضحاك، والربيع بن أنس.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: { قُلْ إِن تُخْفُواْ } الآية قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسروا، وما أعلنوا. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله { محضراً }، يقول: موفراً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً، يكون ذلك مناه. وأما في الدنيا، فقد كانت خطيئته يستلذها. وأخرجا أيضاً، عن السدي: { أَمَدَا بَعِيدًا } قال: مكاناً بعيداً. وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج { أمداً } قال: أجلاً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: { وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَءوفُ بِٱلْعِبَادِ } قال: من رأفته بهم حذرهم نفسه.