التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
٧٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٧
-آل عمران

فتح القدير

هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين. والجار والمجرور في قوله: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } في محل رفع على الابتداء على ما مرّ في قوله: { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } [البقرة: 8] وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله: { تَأْمَنْهُ } هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب، والأشهب العقيلي: «تيمنه» بكسر التاء الفوقية على لغة بكر، وتميم، ومثله قراءة من قرأ: « { نستعين } » [الفاتحة: 5] بكسر النون. وقرأ نافع، والكسائي: { يُؤَدّهِ } بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو، والأعمش، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء. قال النحاس: إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه ألبتة، ويرى أنه غلط من قرأ به، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا، والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها، فيقولون ضربته ضرباً شديداً، كما يسكنون ميم أنتم، وقمتم، وأنشد:

لما رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ مال إلى أرْطاة حِقْفٍ فاضَّطجَع

وقرأ أبو المنذر سلام، والزهري: «يؤده» بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة، وحمزة، ومجاهد: «يؤدهو» بواو في الإدراج، ومعنى الآية: أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدى أمانته، وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته، وإن كانت حقيرة، ومن كان أميناً في الكثير، فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل، فهو في الكثير خائن بالأولى. وقوله: { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } استثناء مفرغ، أي: لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لردّه، والإشارة بقوله { ذلك } إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله: { لاَّ يُؤَدِّهِ }. والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب، أي: ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادّعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: { وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.

{ بلى } أي: بلى عليهم سبيل؛ لكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله: { بَلَىٰ } "إثبات لما نفوه من السبيل". قال الزجاج: تمّ الكلام بقوله: { بَلَىٰ } ثم قال: { مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَٱتَّقَى } وهذه جملة مستأنفة، أي: من أوفى بعهده، واتّقى، فليس من الكاذبين. أو فإن الله يحبه، والضمير في قوله: { بِعَهْدِهِ } راجع إلى "من"، أو إلى الله تعالى، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى "مَن"، أي: فإن الله يحبه.

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } أي: يستبدلون، كما تقدّم تحقيقه غير مرة. وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأيمان: هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به، وينصرونه، وسيأتي بيان سبب نزول الآية { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بهذه الصفة { لاَ خَلَـٰقَ لَهُمْ فِى ٱلأخِرَةِ } أي: لا نصيب { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ } بشيء أصلاً، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم، أو لا يكلمهم بما يسرهم { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } نظر رحمة، بل يسخط عليهم، ويعذبهم بذنوبهم، كما يفيده قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة في قوله: { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } قال: هذا من النصارى { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } قال: هذا من اليهود { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قال: إلا ما طلبته، واتبعته. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلامّيِينَ سَبِيلٌ } قال: قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل. وأخرج ابن جرير، عن السديّ نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلأمّيِينَ سَبِيلٌ } قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا، وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاة إلى البرّ، والفاجر" . وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك من بأس، قال: هذا، كما قال أهل الكتاب: { لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلأمّيِينَ سَبِيلٌ } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس: { بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَٱتَّقَى } يقول: اتقى الشرك: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يقول الذين يتقون الشرك.

وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله، وهو عليه غضبان" . فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك، كان بيني، وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك بينة؟" قلت: لا، قال "لليهودي: احلف،" فقلت: يا رسول الله إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا } إلى آخر الآية". وقد روى: أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق: لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها. أخرجه البخاري، وغيره. وقد روي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث، وامرىء القيس، ورجل من حضرموت. أخرجه النسائي، وغيره.