التفاسير

< >
عرض

وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٢٨
وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٢٩
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
١٣٠
-النساء

فتح القدير

{ امرأة } مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده، أي: وإن خافت امرأة، وخافت بمعنى: توقعت ما تخاف من زوجها، وقيل معناه: تيقنت وهو خطأ. قال الزجاج: المعنى: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا } دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز، أو أيّ إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة، أو بعضها، أو بعض النفقة، أو بعض المهر. قوله: { أن يصالحا } هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون: «أن يصلحا» وقراءة الجمهور أولى؛ لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل: تصالح الرجلان، أو القوم، لا أصلح. وقوله: { صَـٰلِحاً } منصوب على أنه اسم مصدر، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف، أي: فيصلح حالهما صلحاً، وقيل: هو منصوب على المفعولية. وقوله: { بَيْنَهُمَا } ظرف للفعل، أو في محل نصب على الحال.

قوله: { وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ } لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة، أو من الخصومة، وهذه جملة اعتراضية. قوله: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } إخبار منه سبحانه بأن الشحّ في كل واحد منهما، بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة، وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج، فلا تترك له شيئاً منها. وشحّ الأنفس: بخلها بما يلزمها، أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه: { { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9].

قوله: { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ } أي: تحسنوا عشرة النساء، وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.

قوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء } أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة، ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" ولما كانوا لا يستطيعون ذلك، ولو حرصوا عليه، وبالغوا فيه نهاهم عزّ وجلّ عن أن يميلوا كل الميل؛ لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم، وداخل تحت طاقتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمُعلقة التي ليست ذات زوج، ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقرّ على شيء، وفي قراءة أبيّ «فتذروها كالمسجونة» قوله: { وَإِن تُصْلِحُواْ } أي: ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء، والعدل بينهنّ { وَتَتَّقُواْ } كل الميل الذي نهيتم عنه: { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لا يؤاخذكم بما فرط منكم.

قوله: { وَإِن يَتَفَرَّقَا } أي: لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه: { يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ } منهما: أي: يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيىء للرجل امرأة توافقه، وتقرّ بها عينه، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته، ويرزقهما { مّن سَعَتِهِ } رزقاً يغنيهما به عن الحاجة: { وَكَانَ ٱللَّهُ وٰسِعاً حَكِيماً } واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.

وقد أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } الآية، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة. وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية. وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كبراً، أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن: { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } الآية. وأخرج أبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية، فقال: هو رجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت، أو تكون دميمة، فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها، فلا بأس به، فإن رجعت سوّى بينهما. وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ } قال: هواه في الشيء يحرص عليه، وفي قوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء } قال: في الحبّ والجماع، وفي قوله: { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ } قال: لا هي أيمة ولا ذات زوج. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" وإسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وأهل السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة، وأحد شقيه ساقط" . قال الترمذي: إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام. وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في قوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء } قال: الجماع. وأخرج ابن أبي شيبة، عن الحسن قال: الحبّ.