التفاسير

< >
عرض

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٧٦
-النساء

فتح القدير

قد تقدّم الكلام في الكلالة في أوّل هذه السورة، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله: { يَسْتَفْتُونَكَ }. قوله: { إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } أي: إن هلك امرؤ هلك، كما تقدم في قوله: { { وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ } [النساء: 128]. وقوله: { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } إما صفة لـ { امرؤ }، أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالاً، والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل: والمراد بالولد هنا: الابن، وهو أحد معنى المشترك؛ لأن البنت لا تسقط الأخت. وقوله: { وَلَهُ أُخْتٌ } عطف على قوله: { ليس له ولد }. والمراد بالأخت هنا: هي الأخت لأبوين، أو لأب لا لأم، فإن فرضها السدس، كما ذكر سابقاً. وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين، أو لأب عصبة للبنات، وإن لم يكن معهم أخ. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري، وطائفة، وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين، أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت، فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف. وثبت في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.

قوله: { وَهُوَ يَرِثُهَا } أي: المرء يرثها، أي: يرث الأخت { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } ذكر إن كان المراد بإرثه لها: حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد: ثبوت ميراثه لها في الجملة أعمّ من أن يكون كلاً، أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ، كما يسقطه الولد الذكر، لأن المراد: بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا. وأما سقوطه مع الأب، فقد تبين بالسنة، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" والأب أولى من الأخ: { فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ } أي: فإن كان من يرث بالأخوّة اثنتين، والعطف على الشرطية السابقة، والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في قوله: { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً } باعتبار الخبر: { فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } المرء إن لم يكن له ولد، كما سلف، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهنّ الثلثان بالأولى { وَإِن كَانُواْ } أي: من يرث بالأخوّة { إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء } أي: مختلطين ذكوراً وإناثاً { فَلِلذَّكَرِ } منهم { مِثْلُ حَظِ ٱلأنْثَيَيْنِ } تعصيباً { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أي: يبين لكم حكم الكلالة، وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين. وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين { وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء } من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها { عَلِيمٌ } أي: كثير العلم.

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ عليّ، فعقلت، فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض. وأخرجه عنه ابن سعد، وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت فيّ { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ }. وأخرج ابن راهويه، وابن مردويه، عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تورث الكلالة: فأنزل الله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ } الآية. وأخرج مالك، ومسلم، وابن جرير، والبيهقي، عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: "ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" . وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الكلالة؟ فقال: "تكفيك آية الصيف" . وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عمر قال: ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهنّ عهداً ننتهي إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء ابن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ }. وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن سيرين قال: كان عمر ابن الخطاب إذا قرأ { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } قال: اللهمّ من بينت له الكلالة، فلم تبين لي.

وقد أوضحنا الكلام خلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة، فلا نعيده.