التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً
٦٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
٦١
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً
٦٢
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
٦٣
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
٦٤
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
٦٥
-النساء

فتح القدير

قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ } فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله، وعلى من قبله أن يكفروا به، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يتضح معناها. وقد تقدّم تفسير الطاغوت، والاختلاف في معناه. قوله: { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } معطوف على قوله: { يُرِيدُونَ } والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب، كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون كذا، ويريد الشيطان كذا. وقوله: { ضَلاَلاً } مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله: { { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور، والتقدير: ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً. والصدود: اسم للمصدر، وهو الصدّ عند الخليل، وعند الكوفيين أنهما مصدران، أي: يعرضون عنك إعراضاً.

قوله: { فَكَيْفَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بيان لعاقبة أمرهم، وما صار إليهم حالهم، أي: كيف يكون حالهم { إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } أي: وقت إصابتهم، فإنهم يعجزون عند ذلك، ولا يقدرون على الدفع. والمراد: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت { ثُمَّ جَاءوكَ } يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على { أَصَـٰبَتْهُمْ } وقوله: { يَحْلِفُونَ } حال، أي: جاءوك حال كونهم حالفين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك. وقال ابن كيسان: معناه: ما أردنا إلا عدلاً، وحقاً مثل قوله: { { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } [التوبة: 107] فكذبهم الله بقوله: { أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: عن عقابهم. وقيل عن قبول اعتذارهم: { وَعِظْهُمْ } أي: خوّفهم من النفاق { وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ } أي: في حق أنفسهم. وقيل: معناه: قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم { قَوْلاً بَلِيغاً } أي: بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم، وسبي نسائهم، وسلب أموالهم { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } «من» زائدة للتوكيد { إلاَّ لِيُطَاعَ } فيما أمر به ونهى عنه { بِإِذُنِ ٱللَّهِ } بعلمه. وقيل بتوفيقه: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بترك طاعتك، والتحاكم إلى غيرك { جَاءوكَ } متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم، ومخالفتهم { فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ } لذنوبهم، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم، فاستغفرت لهم، وإنما قال: { وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ } على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم { لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } أي: كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.

قوله: { فَلاَ وَرَبّكَ }.قال ابن جرير: قوله: { فَلا } ردّ على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله: { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقيل: إنه قدّم «لا» على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون، كما في قوله: { { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] { حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ } أي: يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل: معناه: يتحاكمون إليك، ولا ملجىء لذلك { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي: اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة:

وهم الحكام أرباب الهـدى وسعاة الناس في الأمر الشجر

أي: المختلف، ومنه: تشاجر الرماح، أي: اختلافها { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } قيل: هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام، أي: فتقضي بينهم، ثم لا يجدوا. والحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتفّ: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقيل: الحرج: الإثم، أي: لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي: ينقادوا لأمرك، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج: { تَسْلِيماً } مصدر مؤكد، أي: ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً، ولا شبهة فيه. والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم، كما يؤيد ذلك قوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فلا يختص بالمقصودين بقوله: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما. وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف، ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } فضم إلى التحكيم أمراً آخر، وهو عدم وجود حرج، أي: حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله: { وَيُسَلّمُواْ } أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد، فقال: { تَسْلِيماً } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه ردّ، ولا تشوبه مخالفة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال: كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية. وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعقب بن قشير، ورافع بن زيد، كانوا يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ } قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية.

وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمرّ، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك" ، فغضب الأنصاري، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك" ، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري. استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق ابن لهيعة عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فقضى بينهما، فقال المقضيّ عليه: ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردّنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول، فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.