التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٨
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
-المائدة

فتح القدير

.

{ نِعْمَةَ ٱللَّه } قيل: هي الإسلام. والميثاق: العهد. قيل: المراد به هنا: ما أخذه على بني آدم كما قال: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الآية [الأعراف: 172]. قال مجاهد وغيره: نحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به. وقيل: هو خطاب لليهود، والعهد: ما أخذه عليهم في التوراة. وذهب جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم، إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة عليهم، وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه؛ لأنه عن أمره وإذنه، كما قال { { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10]، وبيعة العقبة مذكورة في كتب السيرة، وهذا متصل بقوله { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1]. قوله { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي وقت قولكم هذا القول، وهذا متعلق بواثقكم، أو بمحذوف وقع حالاً أي كائناً هذا الوقت. و { ذَاتُ ٱلصُّدُورِ }: ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد. ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها، فكيف بما كان ظاهراً جلياً.

قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ } قد تقدّم تفسيرها في النساء، وصيغة المبالغة في { قَوَّامِينَ } تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتمّ قيام { لِلَّهِ } أي لأجله، تعظيماً لأمره، وطمعاً في ثوابه. والقسط: العدل. وقد تقدّم الكلام على قوله: { يَجْرِمَنَّكُمْ } مستوفى، أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، وكتم الشهادة { ٱعْدِلُواْ هُوَ } أي العدل المدلول عليه بقوله: { اعدلوا } { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } التي أمرتم بها غير مرة، أي أقرب لأن تتقوا الله، أو لأن تتقوا النار. قوله: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله: { وَعْدُ } على معنى وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، ومثله قول الشاعر:

وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعيناً سلسبيلاً

قوله: { أَصْحَـٰبِ ٱلْجَحِيمِ } أي: ملابسوها. قوله: { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } ظرف لقوله: { ٱذْكُرُواْ } أو للنعمة، أو لمحذوف وقع حالاً منها { أَن يَبْسُطُواْ } أي بأن يبسطوا. وقوله: { فَكَفَّ } معطوف على قوله: { همّ } وسيأتي بيان سبب نزول هذه الآية، وبه يتضح المعنى.

وقد أخرج ابن جرير، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس في قوله: { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يعني حين بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب قالوا آمناً بالنبيّ والكتاب، وأقررنا بما في التوراة، فذكرهم الله ميثاقه الذي أقرّوا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: النعم: الآلاء، وميثاقه الذي واثقهم به، قال: الذي واثق به بني آدم، في ظهر آدم عليه السلام.

وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير، في قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّه شُهَدَآء ِبِٱلْقِسْطِ } الآية. قال: نزلت في يهود خيبر، ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية، فهموا أن يقتلوه، فذلك قوله: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ } الآية. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله" ، قال الأعرابي: مرتين أو ثلاثاً من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الله" ، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا. ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي، فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتأوّل: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } الآية. وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحارث، وأنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الله" سقط السيف من يده، فأخذه النبي وقال: "من يمنعك مني؟" قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله. وأخرجه أيضاً ابن إسحاق وأبو نعيم في الدلائل عنه.

وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس: أن بني النضير هموا أن يطرحوا حجراً على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا، فقام ومن معه، فنزلت: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } الآية، وروى نحو هذا من طرق عن غيره، وقصة الأعرابي وهو غورث المذكور ثابتة في الصحيح.