التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ
١٤٨
وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
١٤٩
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٥٠
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
١٥١
-الأعراف

فتح القدير

.

قوله: { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ } أي من بعد خروجه إلى الطور { مِنْ حُلِيّهِمْ } متعلق بـ { اتخذ } أو بمحذوف وقع حالاً، و{ من } للتبعيض، أو للابتداء، أو للبيان. والحلي جمع حلى. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة { من حُلِّيهم } بضم الحاء وتشديد الياء. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصماً بكسر الحاء. وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء. قال النحاس: جمع حَلْيٍ وحُليٍ وحِلِى مثل ثدي وثدي وثدي، والأصل حلوى أدغمت الواو في الياء، فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام وضمها على الأصل. وأضيفت الحلي إليهم وإن كانت لغيرهم؛ لأن الإضافة تجوز لأدنى ملابسة، و { عِجْلاً } مفعول { اتخذ }. وقيل: هو بمعنى التصيير، فيتعدى إلى مفعولين ثانيهما محذوف: أي اتخذوا عجلاً إلهاً. و{ جَسَداً } بدل من عجلاً. وقيل وصف له. والخوار الصياح. يقال خار يخور خوراً إذا صاح. وكذلك خار يخار خواراً. ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً، مع أنه اتخذه السامريّ وحده، لكونه واحداً منهم، وهم راضون بفعله.

روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة، قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم: إن معكم حلياً من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد، وخرجتم وهو معكم، وقد أغرق الله أهله من القبط، فهاتوها، فدفعوها إليه، فاتخذ منها العجل المذكور.

قوله: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم، فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم، أو دفع ضرّ عنهم. { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } أي طريقاً واضحة يسلكونها { ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ } أي اتخذوه إلهاً { وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ } لأنفسهم في اتخاذه، أو في كل شيء. ومن جملة ذلك هذا الاتخاذ.

قوله: { وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات، يقال للنادم المتحير قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده وأسقط. ومن قال { سقط في أيديهم } على البناء للفاعل، فالمعنى عنده: سقط الندم. وأصله أن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم: معنى { سقط في أيديهم } أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد، لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال الله تعالى: { { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج: 10] وأيضاً الندم وإن حلّ القلب، فأثره يظهر في البدن، لأن النادم يعضّ يده، ويضرب إحدى يديه على الأخرى، قال الله تعالى: { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } [الكهف: 42] ومنه: { { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [الفرقان: 27] أي: من الندم. وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده.

{ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } معطوف على { سقط }: أي تبينوا أنهم قد ضلوا باتخاذهم العجل، وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } قرأ حمزة والكسائي بالفوقية في الفعلين جميعاً. وقرأ الباقون بالتحتية، واللام للقسم، وجوابه: { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال. وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى. وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد. قوله: { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَـٰنَ أَسِفًا } هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه. وانتصاب غضبان وأسفا على الحال، والأسف شديد الغضب. قيل هو منزلة وراء الغضب أشدّ منه، وهو أسف وأسيف وأسفان وأسوف، قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً.

{ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى } هذا ذمّ من موسى لقومه، أي بئس العمل ما عملتموه من بعدي، أي من بعد غيبتي عنكم، يقال خلفه بخير وخلفه بشرّ، استنكر عليهم ما فعلوه، وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الانزجار والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوّن حالهم واضطراب أفعالهم. ثم قال منكراً عليهم { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ } والعجلة. التقدّم بالشيء قبل وقته، يقال عجلت الشيء سبقته، وأعجلت الرجل حملته على العجلة، والمعنى: أعجلتم عن انتظار أمر ربكم؟ أي ميعاده الذي وعدنيه، وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم. وقيل معناه: تعجلتم سخط ربكم. وقيل معناه: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم.

{ وَأَلْقَى ٱلألْوَاحَ } أي طرحها لما اعتراه من شدّة الغضب والأسف، حين أشرف على قومه، وهم عاكفون على عبادة العجل.

قوله: { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } أي أخذ برأس أخيه هارون، أو بشعر رأسه حال كونه يجرّه إليه فعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامريّ، ولا غيره ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل، فقال: هارون معتذراً منه { ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى } أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين، استضعافهم لي، ومقاربتهم لقتلي. وإنما قال { ابن أمّ } مع كونه أخاه من أبيه وأمه، لأنها كلمة لين وعطف، ولأنها كانت كما قيل مؤمنة. وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. قرىء { ابن أمّ } بفتح الميم تشبيهاً له بخمسة عشر، فصار كقولك يا خمسة عشر أقبلوا. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: إن الفتح على تقدير يابن أما. وقال البصريون هذا القول خطأ. لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الاسمين اسماً واحداً كخمسة عشر، واختاره الزجاج والنحاس. وأما من قرأ بكسر الميم، فهو على تقدير ابن أمي، ثم حذفت الياء وأبقيت الكسرة، لتدل عليها. وقال الأخفش وأبو حاتم: ابن أمّ بالكسر، كما تقول يا غلام أقبل وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافاً إليك. وقرىء { ٱبْن أمي } بإثبات الياء.

قوله: { يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلأعْدَاء } الشماتة: السرور من الأعداء بما يصيب من يعادونه مع المصائب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء" وهو في الصحيح. ومنه قول الشاعر:

إذا ما الدهر جرّ على أناس كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا

والمعنى: لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار "فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلأعْدَاء" بفتح حرف المضارعة، وفتح الميم، ورفع الأعداء على أن الفعل مسند إليهم، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي. وروي عن مجاهد أنه قرأ "تُشْمِتْ" كما تقدّم عنه مع نصب الأعداء. قال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يا ربّ، وجاز هذا كما في قوله: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [البقرة: 15] ونحوه، ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء، كأنه قال: ولا تشمت يا ربّ بي الأعداء، وما أبعد هذه القراءة عن الصواب، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب.

قوله: { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي: لا تجعلني بغضبك عليّ في عداد القوم الظالمين، يعني الذين عبدوا العجل، أو لا تعتقد أني منهم.

قوله: { قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي } هذا كلام مستأنف جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال موسى بعد كلام هارون هذا؟ فقيل: { قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى وَلأَخِي } طلب المغفرة له أوّلاً، ولأخيه ثانياً، ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة، فكأنه تذمم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له، وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه، ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليه من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم، ثم طلب إدخاله وإدخال أخيه في رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهو { أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ }.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد، في قوله: { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ } الآية، قال: حين دفنوها ألقى عليها السامري قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: استعاروا حلياً من آل فرعون، فجمعه السامري فصاغ منه { عِجْلاً } فجعله { جَسَداً } لحماً ودماً { لَّهُ خُوَارٌ }. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: { خُوَارٌ } قال: الصوت. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: خار العجل خورة لم يئن، ألم تر أن الله قال: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ }.

وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: { سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ } قال: ندموا. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق، عن ابن عباس { أَسَفاً } قال: حزينا. وأخرج أبو الشيخ، عن أبي الدرداء، قال: الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك. وأخرج عبد بن حميد، عن محمد بن كعب، قال: الأسف الغضب الشديد.

وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع. وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، قال: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } قال: مع أصحاب العجل.