التفاسير

< >
عرض

وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٨١
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٢
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
١٨٣
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١٨٤
أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٨٦
-الأعراف

فتح القدير

.

قوله: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } خبر مقدّم و{ أُمَّةٍ } مبتدأ مؤخر، و{ يَهْدُونَ } وما بعده صفة له. ويجوز أن يكون { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } هو المبتدأ كما تقدّم في قوله: { { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ } [البقرة: 8]. والمعنى: أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق. "و" بالحق { يَعْدِلُونَ } بينهم. قيل: هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، كما ورد في الحديث الصحيح.

ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } والاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج: كفّ الشيء، يقال أدرجته ودرجته، ومنه إدارج الميت في أكفانه. وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج: أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبيّ: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في إثر بعض. والمعنى: سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها، فينهمكون في الغواية، ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك، وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة.

قوله: { وَأُمْلِى لَهُمْ } معطوف على سنستدرجهم، أي أطيل لهم المدّة وأمهلهم، وأؤخر عنهم العقوبة. وجملة { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء، ومؤكدة له. والكيد: المكر، والمتين: الشديد القويّ، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب. قال في الكشاف: سماه كيداً، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.

والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } للإنكار عليهم، حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به. و«ما» في { مَا بِصَاحِبِهِم } للاستفهام الإنكاري، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر { بصاحبهم }، والجنة مصدر، أي وقع منهم التكذيب، ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً، وقولهم زوراً وبهتاً. وقيل إنّ «ما» نافية واسمها { مّن جِنَّةٍ } وخبرها بصاحبهم، أي ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون، فيكون هذا رداً لقولهم: { { ياأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6] ويكون الكلام قد تمّ عند قوله: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ }. والوقف عليه من الأوقاف الحسنة. وجملة: { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } مقررة لمضمون ما قبلها، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } للإنكار والتقريع والتوبيخ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية، والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم وقد تقدّم بيانه. والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم، خائضون في غوايتهم، لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً.

قوله: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَىْء } أي: لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض، أومن دقائقها من سائر مخلوقاته.

قوله: { وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } معطوف على ملكوت. و"أن" هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وخبرها { عسى } وما بعدها، أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فيموتون عن قريب. والمعنى: إنهم إذا كانوا يجوّزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به، وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به. { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } الضمير يرجع إلى ما تقدّم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة، أي فبأيّ حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره؛ وقيل الضمير للقرآن. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل للأجل المذكور قبله.

وجملة { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } مقررة لما قبلها، أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله، ومن يضلله فلا هادي له، أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق، وينزعه عن الضلالة ألبتة { وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } قرىء بالرفع على الاستئناف، وبالجزم عطفاً على محل الجزاء. وقرىء بالنون. ومعنى يعمهون: يتحيرون. وقيل: يترددون، وهو في محل نصب على الحال.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ } قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون" . وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، في الآية قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقولإذا قرأها: "هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها" { { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159]. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل"

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } يقول: سنأخذهم من حيث لا يعلمون. قال: عذاب بدر. وأخرج أبو الشيخ، عن يحيى بن المثنى في الآية قال: كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة، تنسيهم الاستغفار. وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن سفيان في الآية قال: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها. وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن ثابت البناني، أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين.

وأخرج أبو الشيخ، في قوله: { وَأُمْلِى لَهُمْ } يقول: أكفّ عنهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } إن مكري شديد، ثم نسخها الله فأنزل { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5]. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كيد الله العذاب والنقمة.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى أصبح، فأنزل الله: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }.