التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
٦٥
ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٦٦
-الأنفال

فتح القدير

.

قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ليس هذا تكريراً لما قبله فإن الأوّل مقيد بإرادة الخدع { { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ } [الأنفال: 62] فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ } كفاية عامة غير مقيّدة، أي حسبك الله في كل حال، والواو في قوله: { وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ } يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف. والمعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنين، أي كافيك الله وكافيك المؤمنين، ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول: حسبك وزيداً درهم، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرّر في علم النحو، وأجازه الكوفيون. قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك، بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: { وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ } مجروراً لقيل: حسبك الله وحسب من اتبعك، واختار النصب على المفعول معه النحاس، وقيل يجوز أن يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر.

وقوله: { حَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } أي: حثهم وحضهم، والتحريض في اللغة: المبالغة في الحثّ وهو كالتحضيض، مأخوذ من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به، ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار، فقال: { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد، بل هي جارية في كل عدد فقال: { وَإِن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا } وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال، وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك. فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين، بل مثل نصفهم بل مثلهم. وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا بالخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر. وقيل: إن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر، كقوله تعالى: { { وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ } [البقرة: 233] { وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ } [البقرة: 228] فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم، ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال: { فَإن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } إلى آخر الآية، فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم { ضعفاً } بفتح الضاد.

وقوله: { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } متعلق بقوله: { يَغْلِبُواْ } أي: إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة، ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب. وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمائتين، والمائة للألف أن سراياه التي كان يبعثها صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ولا يجاوز المائة. وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين، والألف للألفين، على أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف. ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله، وتيسيره لا بقوّتهم وجلادتهم، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر، لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم، هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.

وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، وأنزل الله { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة، ثم إن عمر أسلم صاروا أربعين فنزل: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، قال: لما أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ }. وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن الزهري في الآية قال: نزلت في الأنصار، وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الشعبي في قوله: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال: حسبك الله وحسب من اتبعك.

وأخرج البخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: لما نزلت { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فكتب عليهم أن لا يفرّ واحد من العشرة، وأن لا يفرّ عشرون من مائتين، ثم نزلت { ٱلئَـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } الآية، فكتب أن لا يفرّ مائة من مائتين قال سفيان: وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم، وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف { ٱلئَـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } الآية قال: فلما خفّف الله عنهم من العدّة نقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم.