التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
-التوبة

فتح القدير

.

قرأ الجمهور { يَعْمُرُواْ } بفتح حرف المضارعة وضم الميم من عمر يعمر. وقرأ ابن السميفع بضم حرف المضارعة من أعمر يعمر: أي يجعلون لها من يعمرها. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن وسهم ويعقوب { مَسجد ٱللَّهِ } الإفراد. وقرأ الباقون { مساجد } بالجمع، واختارها أبو عبيدة. قال النحاس: لأنها أعمّ، والخاص يدخل تحت العام، وقد يحتمل أن يراد بالجمع المسجد الحرام خاصة، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس كما يقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً قال: وقد أجمعوا على الجمع في قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ } وروي عن الحسن البصري أنه تعالى إنما قال: { مَسَـٰجِدَ } والمراد: المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم وبالعكس، كقولهم فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً. والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي، وهو ملازمته والتعبد فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول: فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني: فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام، ومعنى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم وما استقام أن يفعلوا ذلك، و { عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } حال: أي ما كان لهم ذلك حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها، وجعلها آلهة، فإن هذا شهادة منهم على أنفسهم بالكفر، وإن أبوا ذلك بألسنتهم، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين: عمارة المساجد التي هي من شأن المؤمنين، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرّب إلى الله بعمارة مساجده. وقيل: المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك: تملكه وما ملك؛ وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر: أن اليهودي يقول هو يهودي، والنصراني يقول هو نصراني، والصابىء يقول هو صابىء، والمشرك يقول هو مشرك: { أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } التي يفتخرون بها، ويظنون أنها من أعمال الخير: أي بطلت ولم يبق لها أثر { وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ } وفي هذه الجملة الإسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.

ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وفعل ما هو من لوازم الإيمان من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة { وَلَمْ يَخْشَ } أحداً { إِلاَّ ٱللَّهُ } فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف، فهو الحقيق بعمارة المساجد. لا من كان خالياً منها أو من بعضها، واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو من أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده؛ لأن كل ذلك من لوازم الإيمان، وقد تقدّم الكلام في وجه جمع المساجد، وفي بيان ماهية العمارة، ومن جوّز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما، وفي قوله: { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم، فإن الموصوفين بتلك الصفات إذا كان اهتداؤهم مرجوّاً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات. وقيل: "عسى" من الله واجبة. وقيل: هي بمعنى خليق، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين. وقيل: إن الرجاء راجع إلى العباد.

والاستفهام في { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } للإنكار، والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية، وفي الكلام حذف، والتقدير: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وعمارة المسجد، أو أهلهما { كَمَنْ ءامَنَ } حتى يتفق الموضوع والمحمول أو يكون التقدير في الخبر: أي جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كعمل من آمن أو كإيمان من آمن. وقرأ ابن أبي وجرة السعدي، وابن الزبير، وسعيد بن جبير: "أجعلتم سقاة الحاج، وعمرة المسجد الحرام" جمع ساق وعامر. وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير محذوف، والمعنى: أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة، ويفضلونهما على عمل المسلمين. فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم فقال: { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ } أي: لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة، التي يدّعيها المشركون، أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين، فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون، ثم حكم عليهم بالظلم وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول. ثم صرّح بالفريق الفاضل فقال: { ٱلَّذِينَ آمنوا } إلى آخره: أي الجامعون بين الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } وأحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحيطة الباطلة. وفي قوله: { عَندَ ٱللَّهِ } تشريف عظيم للمؤمنين، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى المتصفين بالصفات المذكورة { هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } أي: المختصون بالفوز عند الله، ثم فسر الفوز بقوله: { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } والتنكير في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم، والمعنى: أنها فوق وصف الواصفين وتصوّر المتصوّرين. والنعيم المقيم: الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه، وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له، وجملة { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل: أي أعطاهم الله سبحانه هذه الأجور العظيمة لكون الأجر الذي عنده عظيم، يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } وقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } فنفى المشركين من المسجد { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } يقول: من وحد الله وآمن بما أنزل الله { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ } يعني: الصلوات الخمس، { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } يقول: لم يعبد إلا الله { فَعَسَىٰ أُوْلَـئِكَ } يقول: أولئك هم المهتدون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [الإسراء: 79] يقول: إن ربك سيبعثك مقاماً محموداً، وهي الشفاعة، وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.

وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }" . وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد، وعمارتها والتردّد إليها للطاعات.

وأخرج مسلم، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل جهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله فأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } إلى قوله: { لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }.

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، فكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، فذكر الله سبحانه استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: { { قَدْ كَانَتْ ءايَـتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ } [المؤمنون: 66، 67] يعني: أنهم كانوا يستكبرون بالحرم. وقال { به سامراً } كانوا به يسمرون ويهجرون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله على عمران المشركين البيت وقيامهم على السعاية، ولم يكن لينفعهم عند الله مع الشرك به، وإن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه قال الله: { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم ظالمين بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئاً، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج ونفكّ العاني، فأنزل الله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية: يعني: أن ذلك كان في الشرك، فلا أقبل ما كان في الشرك. وأخرج ابن مردويه، عنه، أيضاً في الآية، قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والعباس. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الشعبي، قال: تفاخر عليّ والعباس وشيبة في السقاية والحجابة فأنزل الله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ } الآية، وقد روى معنى هذا من طرق.