التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ
٣٨
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٣٩
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤١
لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٤٢
-التوبة

فتح القدير

.

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } لما شرح معايب أولئك الكفار عاد إلى ترغيب المؤمنين في قتالهم، والاستفهام في { مَا لَكُمْ } للإنكار والتوبيخ: أي، أيّ شيء يمنعكم عن ذلك، ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، والنفر: هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان، لأمر يحدث. قوله: { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } أصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، وجيء بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، ومثله: ادّاركوا، واطيرتم، واطيروا، وأنشد الكسائي:

توالى الضجيع إذا ما اشتاقها حضرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل

وقرأ الأعمش "تثاقلتم" على الأصل، ومعناه: تباطأتم، وعدى بـ { إلى } لتضمنه معنى الميل والإخلاد. وقيل: معناه: ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقرىء: { ٱثَّاقَلْتُمْ } على الاستفهام، ومعناه: التوبيخ، والعامل في الظرف "ما" في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل، كأنه قيل: ما يمنعكم، أو ما تصنعون إذا قيل لكم؟ و { إِلَى ٱلأرْضِ } متعلق بـ { اثاقلتم } وكما مرّ. قوله: { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي: بنعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: { { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَـئِكَةً فِى ٱلأرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] أي بدلاً منكم، ومثله قول الشاعر:

قلبت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان

أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان: عود ينصب في ناحية الدار للهواء يعلق عليه الماء ليبرد، ومعنى: { ٱلآخِرَةِ } أي في جنب الآخرة، وفي مقابلتها { إِلاَّ قَلِيلٌ } أي: إلا متاع حقير لا يعبأ به، ويجوز أن يراد بالقليل العدم، إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي، والظاهر: أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل، إذ من البعيد أن يطبقوا جميعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل، وهو كثير شائع.

قوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } هذا تهديد شديد، ووعيد موكد لمن ترك النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم { يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي: يهلككم بعذاب شديد مؤلم، قيل: في الدنيا فقط، وقيل: هو أعم من ذلك. قوله: { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } أي: يجعل لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم.

واختلف في هؤلاء القوم من هم؟ فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، ولا وجه للتعين بدون دليل. قوله: { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا } معطوف على { يَسْتَبْدِلْ }، والضمير قيل: لله، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ولا تضرّوا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئاً، أو لا تضرّوا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.

قوله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } أي: إن تركتم نصره فالله متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر، أو فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له حال كونه { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } أي: أحد اثنين، وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقرىء بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهها أن تسكن الياء تشبيهاً لها بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن ما بقي من الربا، وكقول جرير:

هو الخليفة فارضوا ما رضيه لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

قوله: { إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ } بدل من { إِذْ أَخْرَجَهُ } بدل بعض، والغار: ثقب في الجبل المسمى ثوراً، وهو: المشهور بغار ثور، وهو: جبل قريب من مكة، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث. قوله: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } بدل ثان: أي وقت قوله لأبي بكر: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } أي: دع الحزن، فإن الله بنصره وعونه وتأييده معنا، ومن كان الله معه فلن يغلب، ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن. قوله: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } السكينة: تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه، وحصل له الأمن، على أن الضمير في { عَلَيْهِ } لأبي بكر. وقيل: هو للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه: عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له، ويؤيد كون الضمير في { عَلَيْهِ } للنبي صلى الله عليه وسلم الضمير في { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } فإنه للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة، كما كان في يوم بدر. وقيل: إنه لا محذور في رجوع الضمير من { عَلَيْهِ } إلى أبي بكر، ومن { وَأَيَّدَهُ } إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كثير في القرآن، وفي كلام العرب { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } أي: كلمة الشرك، وهي دعوتهم إليه. ونداؤهم للأصنام { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا } قرأ الأعمش، ويعقوب بنصب "كلمة" حملاً على جعل، وقرأ الباقون برفعها على الاستئناف. وقد ضعف قراءة النصب الفراء، وأبو حاتم، وفي ضمير الفصل، أعني { هِىَ } تأكيد لفضل كلمته في العلوّ، وأنها المختصة به دون غيرها، وكلمة الله هي كلمة التوحيد، والدعوة إلى الإسلام { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي: غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.

ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وضرب له من الأمثال ما ذكره عقبه بالأمر الجزم فقال: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } أي: حال كونكم خفافاً وثقالاً، قيل المراد: منفردين أو مجتمعين. وقيل: نشاطاً وغير نشاط. وقيل: فقراء وأغنياء. وقيل: شباباً وشيوخاً. وقيل: رجالاً وفرساناً، وقيل: من لا عيال له ومن له عيال، وقيل: من يسبق إلى الحرب كالطلائع، ومن يتأخر كالجيش، وقيل: غير ذلك. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، لأن معنى الآية: انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت. قيل: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } [التوبة: 91]، وقيل: الناسخ لها قوله: { { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } [النور: 122] الآية. وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: { { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأعْرَجِ حَرَجٌ } [النور: 61]. وإخراج الضعيف والمريض بقوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } من باب التخصيص، لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: { خِفَافًا وَثِقَالاً } والظاهر: عدم دخولهم تحت العموم. قوله: { وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم. والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدوّ وبدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدوّ إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض، أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين، والإشارة بقوله: { ذٰلِكُمْ } إلى ما تقدّم من الأمر بالنفير، والأمر بالجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: خير عظيم في نفسه، وخير: من السكون والدعة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ذلك، وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة.

قوله: { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ }. قال الزجاج: لو كان المدعوّ إليه فحذف لدلالة ما تقدّم عليه، والعرض: ما يعرض من منافع الدنيا. والمعنى: غنيمة قريبة غير بعيدة { وَسَفَرًا قَاصِدًا } عطف على ما قبله: أي سفراً متوسطاً بين القرب والبعد، وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد { وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } قال أبو عبيدة وغيره: إن الشقة السفر إلى أرض بعيدة، يقال: منه شقة شاقة، قال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً: السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر، والمراد بهذا غزوة تبوك، فإنها كانت سفرة بعيدة شاقة. وقرأ عيسى بن عمر "بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ" بكسر العين والشين { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } أي: المتخلفون عن غزوة تبوك حال كونكم قائلين: { لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي: لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بدّ منه { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } هذه الجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط. قوله: { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } هو بدل من قوله: { سَيَحْلِفُونَ } لأن من حلف كاذباً فقد أهلك نفسه أو يكون حالاً: أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } في حلفهم الذي سيحلفون به لكم.

وقد أخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ } الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وحين أمرهم بالنفير في الصيف وحين خرفت النخل وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً }.

وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حياً من أحياء العرب، فتثاقلوا عنه، فأنزل الله هذه الآية، فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لم نزلت: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }، وقد كان تخلف عنه أناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المؤمنون: قد بقي ناس في البوادي، وقالوا هلك أصحاب البوادي، فنزلت: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً }. وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم، والنحاس، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس، في قوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ } الآية قال: نسختها: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً }. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } قال: ذكر ما كان من أوّل شأنه حين بعث، يقول: فأنا فاعل ذلك به، وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين. وأخرج أبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن شهاب وعروة، أنهم ركبوا في كل وجه يعني المشركين يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الحمل العظيم، وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار، والذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر، وأقبل عليه الهمّ والخوف، فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه السكينة من الله، { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الآية. وأخرج ابن شاهين، وابن مردويه، وابن عساكر، عن حبشي ابن جنادة، قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحداً من المشركين رفع قدمه لأبصرنا، فقال: "يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا" . وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن الزهري، في قوله: { إذ هُمَا فِى ٱلْغَارِ } قال: هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثوراً. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، عن ابن عباس، في قوله: { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } قال: على أبي بكر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تزل معه السكينة. وأخرج ابن مردويه، عن أنس، قال: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر غار حراء، فقال أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني وإياك، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر؟ إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم يروها" . وأخرج الخطيب في تاريخه، عن حبيب بن أبي ثابت { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } قال: على أبي بكر، فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كانت عليه السكينة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس، في قوله: { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } قال: هي الشرك بالله: { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا } قال: لا إله إلا الله.

وأخرج الفريابي، وأبو الشيخ، عن أبي الضحى قال: أوّل ما أنزل من براءة: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } ثم نزل أوّلها وآخرها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن أبي مالك، نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: { خِفَافًا وَثِقَالاً } قال: نشاطاً وغير نشاط. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحكم في الآية قال: مشاغيل وغير مشاغيل. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: في العسر واليسر. وأخرج ابن المذر، عن زيد ابن أسلم، قال: فتياناً وكهولاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن عكرمة، قال: شباباً وشيوخاً. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: قالوا: إن فينا الثقيل، وذا الحاجة، والضيعة، والشغل فأنزل الله: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافاً وثقالاً، وعلى ما كان منهم. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: جاء رجل زعموا أنه المقداد، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى، فنزلت: { ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } فلما نزلت هذه الآية اشتدّ على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: { { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } [التوبة: 91] الآية.

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان: قد علمت يا رسول الله، أن النساء فتنة فلا تفتنا بهنّ فأذن لنا، فأذن لهما، فلما انطلقنا قال أحدهما: إن هو إلا شحمة لأوّل آكل، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عليه شيء في ذلك، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المناة { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ } ونزل عليه: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ونزل عليه: { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [التوبة: 45] ونزل عليه: { { إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة: 95]. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس: { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } قال: غنيمة قريبة، { وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } قال: المسير. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة، في قوله: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } قال: لقد كانوا يستطيعون الخروج ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم، وزهادة في الجهاد.