التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٤
فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
-التوبة

فتح القدير

الاستثناء بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ }. قال الزجاج: إنه يعود إلى قوله: { بَرَاءةٌ } والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم. وقال في الكشاف: إنه مستثنى من قوله: { فَسِيحُواْ } والتقدير: فقولوا لهم: فسيحوا، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم، فأتموا إليهم عهدهم. قال: والاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم. وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وهو: { وَأَذَانٌ مّنَ ٱللَّهِ } إلخ. وأجيب بأن ذلك لا يضرّ، لأنه ليس بأجنبي. وقيل: إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله، فيكون متصلاً وهو ضعيف. قوله: { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي: لم يقع منهم أيّ نقص. وإن كان يسيراً، وقرأ عكرمة، وعطاء بن يسار"ينقضوكم" بالضاد المعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده. ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدّته { وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } المظاهرة: المعاونة: أي لم يعاونوا عليكم أبحداً من أعدائكم { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } أي: أدّوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص { إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الماكثين على القتال بعد مضي المدّة المذكورة سابقاً، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.

قوله: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } انسلاخ الشهر: تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى: خرجت منه، ومنه قول الشاعر:

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي

ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل: { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس: 37].

واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر. وروي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير. وقيل: المراد بها: شهور العهد المشار إليها بقوله: { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } وسميت حرماً، لأن الله سبحانه حرّم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرّض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم: مجاهد، وابن إسحاق، وابن زيد، وعمرو بن شعيب. وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: { فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }. وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسديّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله. ومعنى: { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }: في أيّ مكان وجدتموهم من حلّ أو حرم. ومعنى: { خذوهم }: الأسر، فإن الأخيذ هو الأسير. ومعنى الحصر: منعهم من التصرّف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدوّ، يقال: رصدت فلاناً أرصده، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها. قال عامر بن الطفيل:

ولقد علمت وما أخالك عالما أن المنية للفتى بالمرصد

وقال النابغة:

أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد

وكل في { كُلَّ مَرْصَدٍ }: منتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج، وقيل: هو منتصب بنزع الخافض: أي في كل مرصد، وخطأ أبو عليّ الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً. وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، وهو: المرأة، والصبيّ، والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. وقال الضحاك وعطاء والسديّ: هي منسوخة بقوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [محمد: 4]. وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادي. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخة لقوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء }، وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. قال القرطبي: وهو الصحيح؛ لأن المنّ والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أوّل حرب جاء بهم وهو يوم بدر. قوله: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاة } أي: تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل، وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات، لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات، لأنه أعظمها { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي: اتركوهم وشأنهم، فلا تأسروهم، ولا تحصروهم، ولا تقتلوهم { ٱللَّهَ غَفُورٌ } لهم { رَّحِيمٌ } بهم.

قوله: { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ }، يقال: استجرت فلاناً، أي طلبت أن يكون جاراً: أي محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم، أو يتعرّض لي متعرّض. و{ أحد } مرتفع بفعل مقدّر يفسره المذكور بعده: أي وإن استجارك أحد استجارك، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر. والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره: أي كن جاراً له مؤمناً محامياً { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } منك ويتدبره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه: { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي: إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد، والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم من الأمر بالإجارة، وما بعده { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } أي: بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ } قال: هم قريش. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيّ الله زمن الحديبية، وكان بقي من مدّتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدّتهم. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن عباد بن جعفر، في قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ } قال: هم بنو جذيمة ابن عامر من بني بكر بن كنانة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } قال: كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد، فهو الذي قال الله { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ }. وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } قال: هؤلاء بنو ضمرة، وبنو مدلج، من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العُشَيْرة من بطن ينبع { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر { وَلَمْ يُظَـٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } قال: لم يظاهروا عدوّكم عليكم { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } يقول: أجلهم الذي شرطتم لهم { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يقول: الذين يتقون الله فيما حرّم عليهم، فيوفون بالعهد. قال: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: { فَإِنَّهُ ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } قال: هي الأربعة: عشرون من ذي الحجة والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من ربيع الآخر. قلت: مراد السديّ أن هذه الأشهر تسمى حرماً لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في الآية قال: هي عشر من ذي القعدة، وذو الحجة، والمحرم، سبعون ليلة. وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد قال: هي الأربعة الأشهر التي قال: { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }. وأخرج ابن المنذر، عن قتادة، نحو قول السديّ السابق. وأخرج أبو داود في ناسخه، عن ابن عباس، في قوله: { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ثم نسخ واستثنى. فقال: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُم }، وقال: { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ }.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } يقول: من جاءك واستمع ما تقول. واستمع ما أنزل إليك، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } قال: إن لم يوافقه ما يقصّ عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه، وهذا ليس بمنسوخ. وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة في قوله: { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } أي: كتاب الله. وأخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: كان الرجل يجىء إذا سمع كتاب الله، وأقرّ به، وأسلم، فذاك الذي دُعي إليه، وإن أنكر ولم يقرّ به، ردّ إلى مأمنه، ثم نسخ ذلك، فقال: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة: 36].