التفاسير

< >
عرض

ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
-يوسف

محاسن التأويل

{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر، ليكون في مقابلة القميص الأول، جالب الحزن، وغشاوة العين. و ( الإلقاء على وجهه ) بمعنى المبالغة في تقريبه منه، لما ناله من ضعف بصره، فتتراجع إليه قوة بصره، بانتعاش قلبه، بشمه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم، وتقوية الأعضاء، وقد جوَّد الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في " تذكرته " في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته.
وفي " الكنوز " من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.
ثم رأيت الرازي عوَّل على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك؛ لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.
ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفاً بحتاً، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.
وقد جوز في قوله: { يَأْتِ بَصِيراً } أن يكون معناه: يصير بصيراً، أو يجيء إليَّ بصيراً، على حقيقة الإتيان فـ ( بصيراً ) حال. قيل: ينصره قوله: { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي: بأبي وغيره، وفيه نظر؛ لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة؛ لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.
روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم، وقد مضت سنتا جوع في الأرض وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم لنجاة عظيمة. وقد جعلني سبحانه أباً لفرعون، وسيداً لجميع أهله، ومتسلطاً على جميع أرض مصر، فبادروا وأشخصوا إلى أبي، وأخبروه بجميع مجدي بمصر، وما رأيتموه، وقولوا له: كذا قال ابنك يوسف: قد جعلني الله سيداً لجميع المصريين، فهلم إلي، فتقم في أرض جاسان، وتكون قريباً مني أنت وبنوك، وبنو بنيك، ومواشيك، وجميع ما هو لك، وأعولك، ها هنا، فقد بقي خمس سنين مجدبة، فأخشى أن يهلك الأهل والمال. وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسر بذلك فرعون وخاصته، وأمره أيضاً بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم؛ لئلا يأسفوا على ما خلفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقداراً وافراً، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق - والله أعلم -.