التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
٢
-الرعد

محاسن التأويل

يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بقدرته رفع السماوات، أي: خلقهن مرتفعات عن الأرض ارتفاعاً لا ينال ولا يدرك مداه. وقوله تعالى: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي: أساطين، جمع عماد أو عمود. وقوله تعالى: { تَرَوْنَهَا } إما استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك، كقول الشاعر:

*أنا بلا سيف ولا رمح تراني*

أو صفة لـ ( عمد ) جيء بها إبهاماً؛ لأن لها عمداً غير مرئية، وإليه ذهب كثير من السلف، ورجح ابن كثير الأول، وأنها لا عمد لها، قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى: { { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه } [الحج: 65]، والأكمل أيضاً في القدرة. وقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله تعالى: { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي: ذللهما لما أراد منهما من نفع العالم السفلي. وقوله تعالى: { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة، كقوله تعالى: { { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } [يس: 38]، وقد بين ذلك في قوله تعالى: { { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير: 1] و: { { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [الانفطار: 2] والاقتصار على الشمس والقمر؛ لأنهما أظهر الكواكب وأعظم من غيرهما، فتسخير غيرهما يكون بطريق الأولى. وقد جاء التصريح بتسخيرهما مع غيرهما في قوله تعالى: { { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [الأعراف: 54] وقوله تعالى: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي: أمر العالم العلوي والسفلي ويصرفه ويقضيه بمشيئته وحكمته على أكمل الأحوال، لا يشغله شأن عن شأن. وقوله تعالى: { يُفَصِّلُ الآيَاتِ } يعني: الآيات الدالة على وحدته وقدرته ونعوته الجليلة. أي: يبينها في كتبه المنزلة. وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي: لعلكم توقنون وتصدقون بأن هذا المدبر والمفصل، لا بد لكم من المصير إليه، بالبعث بعد الموت للجزاء؛ فإن من تدبر حق التدبر؛ أيقن أن من قدر على إبداع ما ذكر من الآيات العلوية؛ قدر على الإعادة والجزاء!.
لطائف
الأولى: جُوَّزَ في قوله تعالى: { اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } أن يكون الموصول خبراً، وأن يكون صفة، والخبر: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ورجح في " الكشف " الأول، بأن قوله الآتي:
{ { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } [الرعد: 3]، عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات، وفي المقابل الخبرية متعينة، فكذا هذا ليتوافقا. والجملة مقررة لقوله: { { وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } [الرعد: 1]، وعدل عن ضمير الرب إلى الجلالة لترشيح التقرير. كأنه قيل: كيف لا يكون المنزل ممن هذه أفعاله هو الحق؟ وتعريف الطرفين لإفادة أنه لا مشارك له فيها؛ لا سيما وقد جعل صلة للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفاً مفيداً لتحقيق كونه مدبراً مفصلاً، مع التعظيم لشأنهما. والمقصود بالإفادة قوله: { لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فالمعنى: أنه فعلها كلها لذلك.
الثانية: قال القاضي: قوله تعالى: { رَفَعَ السَّمَاواتِ } الخ دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية، واختصاصها بما يقتضي ذلك؛ لا بد وأن يكون بمخصص ليس بجسم ولا جسماني، يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات.
الثالثة: { يُدبِّر } و: { يُفصِّل } يقرآن بالياء والنون. وهما مستأنفان. أو الأول حال من ضمير ( سخر ) والثاني من ضمير ( يدبر ) أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة.
ولما قرر الشواهد العلوية؛ أردفها بذكر الدلائل السفلية على قدرته وحكمته. فقال تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ ... }.