التفاسير

< >
عرض

يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
-البقرة

محاسن التأويل

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } أرشد تعالى المؤمنين، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل، بالاستعانة بالصبر والصلاة ؛ لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيكر عليها، أو في نقمة فيصبر [ في المطبوع: فيصير ] عليها. كما جاء في الحديث: " عجباً للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خير له " . وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله، الصبر والصلاة ؛ كما تقدم في قوله: { { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى " . ثم إن الصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثواباً؛ لأن المقصود وأما الصبر الثالث، وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضاً واجب. كالاستغفار من المعائب.
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية " وأعظم عون لوليّ الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره. وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن. والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب ؛ ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً كقوله تعالى:
{ { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، وكقوله تعالى: { { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [هود: 114 - 115]، وقوله: { { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [طه: 130]، وأما قِرانُهُ بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جداً. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية، إذا عرف الْإِنْسَاْن ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج. وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر. انتهى.
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } قال الإمام ابن تيمية في " شرح حديث النزول ": لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله تعالى:
{ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4 ]، وفي قوله: { { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } [المجادلة: 7] إلى قوله: { { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة: 7 ] وجاء خاصاً كما في قوله: { { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128]، وقوله: { { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 46]، وقوله: { { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار، وكذلك قوله: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } خصهم بذلك دون الظالمين والفجار.
وأيضاً، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. كما في قوله:
{ { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الفتح: 29 ]، وقوله: { { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 146]، وقوله: { { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119]، وقوله: { { وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ } [الأنفال: 75]، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ } يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق.
وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة، فهو، إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد. انتهى مختصراً.