التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
١٦٩
-البقرة

محاسن التأويل

{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء } استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيلٌ لفنون شرّه وإفساده. والسُّوء: يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو أفعال القلوب. و: { وَالْفَحْشَاء } ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علمٍ. فمعنى: { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به. قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفاً بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم، بخلقه لهم أولاً، وبجعله ملائماً لهم ثانياً وإباحته لهم ثالثاً، وتحذيره لهم من العدو رابعاً.... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن... !.
قال الرازي: قوله تعالى: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق... ! لأنه - وإن كان مقلداً للحق - لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقاً للذم لا ندراجه تحت الذم في هذه الآية. ! انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين ": القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى:
{ { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33]. وقال تعالى: { { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 116، 117]. ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحلّه: هذا حلال. وهذا بيانٌ منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرّمه.
وقال بعض السلف: ليتَّق أحدُكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرّمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال:
" فإنك لا تدري أتصيب حُكْم الله فيهم أم لا....؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك..... " فتأملّ، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه حكماً حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن مِنْ أمرِ الناس، ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركتُ أحداً أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسناً.
ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ، ذمّهم بمتابعته، مع أنه عدوٌّ، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا ... }.