التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
-البقرة

محاسن التأويل

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدمي معين، وهي النفوس. و: { كُتِبَ } بمعنى فرض وأوجب.
قال الراغب: الكتابة يعبر بها عن الإيجاب. وأصل ذلك: أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب. فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ بالكتابة التي هي المنتهى.
{ الْحُرُّ } يقتل: { بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ } من القاتلين: { مِنْ أَخِيهِ } أي: دم أخيه المقتول: { شَيْءٌ } بأن ترك وليّه القود منه، ونزل عن طلب الدم إلى الدية. وفي ذكر الأخوة: تعطف داعٍ إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان: { فَاتِّبَاعٌ } أي: فعلى العافي اتباع للقاتل: { بِالْمَعْرُوفِ } بأن يطالبه بالدية بلا عنف: { وَ } على القاتل: { أَدَاءٌ } للدية: { إِلَيْهِ } أي: العافي وهو الوارث: { بِإِحْسَانٍ } بلا مطل ولا بخس: { ذَلِكَ } أي: ما ذكر من الحكم، وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية: { تَخْفِيفٌ } تسهيل: { مِّن رَّبِّكُمْ } عليكم: { وَرَحْمَةٌ } بكم، حيث وسّع في ذلك، ولم يحتم واحد منهما: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل القاتل بعد العفو، أو أخذ الدية: { فَلَهُ } باعتدائه: { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أما في الدنيا فبالإقتصاص بما قتله بغير حق، وأما في الآخرة فبالنار.
تنبيهات
الأول: قال الراغب: إن قيل: على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ }؟ أجيب: على الناس كافة. فمنهم من يلزمه استقادته - وهو الإمام - إذا طلبه الولي. ومنه من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل. ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا به. ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص، أو يأخذ الدية. والقصد بالآية: منع التعدي الجاهلي.
الثاني: القصاص مصدر قاصّه، المزيد. وأصل القص: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه: قص شعره. وقص الحديث: اقتطع كلاماً حادثا ًجداً وغيره، والقصة اسم منه. وحقيقة القصاص: أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا. أفاده الراغب.
الثالث: ذكر تقي الدين ابن تيمية في " السياسة الشرعية " جملة من أحكام القتل نأثرها عنه. قالرحمه الله :
القتل ثلاثة أنواع:
أحدها: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصوماً بما يقتل غالباً. سواء كان يقتل بحده: كالسيف ونحوه، أو بثقله: كالسندان وكودس القصار. أو بغير ذلك: كالتحريق، والتغريق، وإلقاءه [ في المطبوع: وإلقاد ] من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين حتى يخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم... ونحو ذلك من الأفعال. فهذا إذا فعله وجب فيه القود. وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل. فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية؛ وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله. قال الله تعالى:
{ { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [الإسراء: 33]. وقيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله. وعن أبي شريح الخُزَاعِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصيب بدم أو خبل - والخبل: الجرح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث. فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئاً من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً " . فمن قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو أعظم جرماً ممن قتل ابتداءً. حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتله حداً، ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول، فإن الله تعالى قال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه. وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل كسيّد القبيلة ومقدّم الطائفة - فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء، كما كان يفعله أهل الجاهلية، وكما يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات: من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيماً، أشرف من المقتول، فيفضي ذلك أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل. وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما، فيفضي إلى الفتن والعداوة العظيمة. وسبب ذلك: خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى. فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتل. وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضاً إذا علم من يريد القتل: أنه يقتل، كفّ عن القتل... !
وقد روي عن علي بن أبي طالب وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم. ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده.. ! " رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي: تتساوى أو تتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين. بخلاف ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود. فإنه كان يقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود: قريظة والنضير. وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي حدّ الزاني، فإنهم كانوا قد غيّروه من الرجم إلى التحميم، وقالوا: إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجّة، وإلا أنتم فقد تركتم حكم التوراة. فأنزل الله تعالى: { { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } إلى قوله: { { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة: 41 - 42] إلى قوله.. { { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 44 - 45].
فبين سبحانه أنه سوّى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفساً على أخرى، كما كانوا يفعلونه، إلى قوله:
{ { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة: 48] - إلى قوله -: { { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50].
فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء. خلاف ما عليه أهل الجاهلية. وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل. فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دماً من الأخرى، أو مالاً، أو يعلو عليها بالباطل، فلا ينصفها. ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق ! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء، والأموال، وغيرها... بالقسط الذي أمر الله به، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية.... وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل، كما قال تعالى:
{ { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 9 - 10]. وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: { { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [المائدة: 45]. قال أنس: ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو.. ! رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله " . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر، فأما الذمي: فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم. كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولاً أو تاجراً أو نحو ذلك - ليس بكفءٍ لهم وفاقا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له. وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد.
النوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلّظة، منها أربعون خلفةٌ في بطونها أولادها " . سماه شبه العمد؛ لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة، لكنه بفعلٍ لا يقتل غالباً، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل.
الثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه: مثل أن يكون يرمي صيداً أو هدفاً، فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده. فهذا ليس فيه قود، وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم.
التنبيه الرابع: قال الراغب: إن قيل: لمَ قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل: فمن عفا له أخوه شيئاً...؟ قيل: العدول إلى ذلك للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة، فعفا أحدهم؛ إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية. فقال: فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى، والهاء في قوله: أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه. وجعله أخاً لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية.
الخامس: هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة، وهي قوله تعالى:
{ { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45]. كما أنها مقيدة، وتلك مطلقة، والمطلق يحمل على المقيد. وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة. وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد. كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى.
فالتعويل على ذلك. وبالجملة: فقوله تعالى: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ }... إلخ لا يفيد الحصر البتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام. هذا ما اعتمدوه. والله أعلم.