التفاسير

< >
عرض

يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

محاسن التأويل

{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } استئناف آخر وقع جواباً عن سؤال مقدّر - كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف أبصارهم، أي: يأخذها بسرعة: { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أي: في ضوئه: { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي: وقفوا، وثبتوا في مكانهم - ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وكسدت. وقام الماء، جمد - وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين: بشدته على أصحاب الصيّب، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل - بما يأتون وما يذرون - إذا صادفوا من البرق خفقةً - مع خوف أن يخطف أبصارهم - انتهزوا تلك الخفقة فرصةً، فَخَطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، وفتر لمعانه، بقوا وافقين متقيدين عن الحركة: { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق فأعماهم. ومفعول: شاء، محذوف، لأن الجواب يدلّ عليه. والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها.
ولقد تكاثر هذا الحذف في: شاء وأراد. لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب - كنحو قوله: فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته، وقوله تعالى:
{ { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } [الأنبياء: 17]: { إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل للشرطية، وتقريرٌ لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهاني.
تنبيهات:
الأول: محصول التمثيلين - غِبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى - هو أنه شبّه، في الأول، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طَفِئَت نارة بعد إيقادها في ظلمة الليل.
وفي الثاني: شبه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها - بتراكم السحب، وانتساج قطراتها، وتواتر فيها الرعود الهائلة، والبروق [ في المطبوع: البروف ] المخيفة، والصواعق المختلفة المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت. وبذلك يعلم أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني - لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. فإنك إذا تصورت حال من طَفِئَت ناره بعد إيقادها... الخ. وحال من أخذتهم السماء.. الخ. حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق - في التمثيل الأول - بالمستوقد ناراً، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام - في الثاني - بالصيب، وما يتعلق به - من شبه الكفار - بالظلمات، وما فيه - من الوعد والوعيد - بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة - من الإفزاع والبلايا والفتن - من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وأيضاً في تشبيه المفردات، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر. وأيضاً في لفظ: المثل، نوع إنباء عن التركيب، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها. وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالاً، مع أمر زائد: هو تشبيه الهيئة بالهيئة، وإيذائه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئةٍ عجيبة حقيقة بأن تكون مثلاً في الغرابة.
التنبيه الثاني:
قال الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " إجتماع الجيوش على غزو المعطلة والجهمية ".
هذه الآية، شبّه، سبحانه، أعدائه المنافقين، بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق - بعد أن كانوا حيارى تائهين - فهم كقوم سَفْر ضلوا عن الطريق، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق فلما أضاءت لهم - فأبصروا وعرفوا - طَفِئَت تلك الأنوار، وتبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سُدت عليهم أبواب الهدى الثلاث - فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: ما يسمعه بإذنه، ويراه بعينه، ويعقل بقلبه، وهؤلاء قد سُدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئاً، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها. وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له، ولا بصر، ولا عقل، والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم: { فهم لا يرجعون } لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلما طَفِئَت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا. وقال سبحانه وتعالى: { ذهب الله بنورهم } ولم يقل: ذهب نورهم، وفيه سرّ بديع: وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة - التي هي للمؤمنين - من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين [ في المطبوع: جعل هذه آية قرآنية من سورة الأنفال وليس كذلك]،
{ { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة: 153]، و: { { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل: 128]. فذهاب الله بذلك النور: انقطاع المعية - التي خصّ بها أولياءه - فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم - بعد ذهاب نورهم -، ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: { { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]، ولا من: { { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62].
وتأمل قوله تعالى: { أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } كيف جعل ضوءها خارجاً عنه، منفصلاً، ولو اتصل ضوؤُها به، ولابَسَه، لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضاً والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه، وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كلٌّ منهما إلى أصله اللائق به: حجة من الله قائمة، وحكمة بالغة، تعرَّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله تعالى: { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم، ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق: فذهب ما فيها من الإشراق - وهو النور - وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق - وهو النارية - وتأمّل كيف قال: { بنورهم } ولم يقل: بضوئهم مع قوله: { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } - لأن الضوء هي زيادة في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء، كان الذهاب به ذهاباً بالشيء وزيادته، وأيضاً فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم، وأيضاً فإن الله تعالى سمّى كتابه: نوراً، ورسوله صلى الله عليه وسلم: نوراً، ودينه: نوراً، وهُداه: نوراً، ومن أسمائه: النور، والصلاة: نور. فذهابه سبحانه بهم: ذهابٌ بهذا كله، وتأمل مطابقة هذه المثل - لما تقدمه من قوله:
{ { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16] كيف طابق هذه التجارة الخاسرة، التي تضمنت هول الضلالة والرضاء بها، وبدّل الهدى في مقابلتها، وهول الظلمات - التي هي الضلالة والرضاء بها - بدلاً عن النور - الذي هو الهدى والنور - فبدّلوا الهدى والنور، وتعوّضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارةٍ ما أخسرها، وصفقةٍ ما أشدَّ غبنها.
وتأمل كيف قال تعالى: { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } فوحّده ثم قال: { وتركهم في ظلمات } فجمعها. فإن الحق واحد: هو صراط الله المستقيم - الذي لا صراط يوصل إليه سواه - وهو عبادته وحده لا شريك له، بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالأهواء، والبدع، وطرق الخارجين عن ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق -، بخلاف طرق الباطل ؛ فإنها متعددة متشعبة. ولهذا، يُفرِدُ، سبحانه، الحق، ويجمع الباطل، كقوله تعالى:
{ { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [البقرة: 257] وقال تعالى: { { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]، فجمع سُبُل الباطل، ووحّد سبيل الحق، ولا يناقض هذا قوله: { { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } [المائدة: 16] فإنّ تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم: إنّ طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها.
وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
"أنه خط خطّاً مستقيماً، وقال: هذا سبيل الله . ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سُبلٌ، على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام: 153 ]" .
وقد قيل: إنّ هذا مثلٌ للمنافقين، وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى: { { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [المائدة: 64]. ويكون قوله تعالى: { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } مطابقاً لقوله تعالى: { أطفأها الله } ويكون تخييبهم، وإبطال ما راموه، هو: تركهم في ظلمات الحيرة، لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلاً، بل هم: { صم بكم عمي }. وهذا التقدير - وإن كان حقاً - ففي كونه مرادُ بالآية نظر ؛ فإنّ السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } وموقدُ نار الحرب لا يضيء ما حوله أبداً، ويأباه قوله تعالى: { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة، إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسنرحمه الله : هو المنافق أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال: { فهم لا يرجعون } أي: لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه. وقال تعالى في حق الكفار: { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فسلب العقل عن الكفار - إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان - وسلب الرجوع عن المنافقين - لأنهم آمنوا ثم كفروا - فلم يرجعوا إلى الإيمان.
فصل
ثم ضرب الله، سبحانه، لهم مثلاً آخر مائياً، فقال تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }. فشبه نصيبهم - مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم - من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طَفِئَت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره، وبقي في الظلمات حائراً، تائهاً، لا يهتدي سبيلاً، ولا يعرف طريقاً، وبنصيب أصحاب الصيب - وهو المطر الذي يصّوب ؛ أي: نزل من علوّ إلى أسفل - فشبه الهدى - الذي هدى به عباده - بالصيب، لأن القلوب تحيي به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى، بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد و برق، ولا نصيب له - فيما وراء ذلك - مما هو المقصود بالصيب - من حياة البلاد، والعباد، والشجر، والدواب، وأن تلك الظمات التي فيه، وذلك الرعد، والبرق، مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب. فالجاهل - لفرط جهله - يقتصر على الإحساس بما في الصيّب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد، وتعطيل المسافر عن سفره، وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام. وهكذا شأن كلّ قاصر النظر، ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب، وهذه حال أكثر الخلق، إلاّ من صحت بصيرته - فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب، والمشاق، والتعرّض لإتلاف المنهجة، والجراحات الشديدة، وملامة اللوّام، ومعاداة من يخاف معاداته - لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون. وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام، فلم يعلم - من سفره ذلك - إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر، ومآله، وعاقبته - فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء، حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد. والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات -والفطام على الصبي أصعب شيء، وأشقّه - والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحقّ علماً، وعملاً، ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب، وما فيه - من الرعد والبرق والصواعق - ويعلم أنه حياة الوجود.
التنبيه الثالث:
قال القاشاني: إنما بولغ في ذكر فريق المنافقين، وذمهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإبعادهم، وتهجين سيرهم وعاداتهم: لإمكان قبولهم للهداية، وزوال مرضهم العارض. عسى التقريع بكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم، فتتزكى بواطنهم، وتتنور قلوبهم، فيسلكوا طريق الحق، ولعل موادعة المؤمنين، وملاطفتهم إياهم، ومجالستهم معهم - تستميل طباعهم، فتهيج فيهم محبةً ما، وشوقاً تلين به قلوبهم إلى ذكرٍ لله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله، فيتوبوا ويصلحوا، كما قال تعالى:
{ { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 145 - 146].