التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
١١٨
-آل عمران

محاسن التأويل

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي: أصحاباً يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون.
قال الزمخشري: بطانة الرجل ووليجته: خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشُقُوره ثقة به. شبه ببطانة الثوب، كما يقال: فلان شعاري - انتهى - ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن غيره: أفضيت إلي بشقوري - بضم الشين وقد تفتح - أي: أخبرته بأمري، وأطلعته على ما أسره من غيره. وفي القاموس وشرحه: البطانة: الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال، والوليجة: وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وقال الزجاج: البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مداخل له موانس، وهؤلاء المنهي عنهم، إما أهل الكتاب، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أنهم اليهود. وذلك لأن السياق في السورة، والسباق معهم. وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف. وإما المنافقون لقوله بعد:
{ { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا } [آل عِمْرَان: 119]... الخ، وهذه صفة المنافقين، كقوله تعالى في سورة البقرة: { { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } [البقرة: 14]... الخ. وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار. وإما جميع أصناف الكفار وقوفاً مع عموم قوله تعالى: { مِنْ دُونِكُمْ } كما قال تعالى: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } [الممتحنة: 1 ]. ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة نصرانياً، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً؟ فقال: قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين.
قال الرازي: فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي من اتخاذ النصراني بطانة.
وقال الحافظ ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، وإطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
وقال السيوطي في " الإكليل ": قال الكيا الهراسي: في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين - انتهى -.
ووجه ذلك، كما قال القاشاني: أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة، متحابين في الله لغرض. كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في أبدان متفرقة. فإذا كان من غير أهل الإيمان، فبأن يكون كاشحاً أحرى. ثم بين نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله: { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } أي: لا يقصرون بكم في الفساد.
قال القاشاني: لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة. فلا تكون في غيرها لكونهم في عالم التضاد. بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الْإِنْسَاْنية لاشتراكهم في النوع والمنافع، والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها. والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها، بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلاً.
قال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر، يألوا: إذا قصر فيه. ثم استعمل معدّى إلى مفعولين. في قولهم: لا آلوك نصحاً، ولا آلوك جهداً، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه. والخبال: الفساد: { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي: عنتكم، على أن ما مصدرية، والعنت: شدة الضرر والمشقة، أي: تمنوا ما يهلككم: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي: ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم، لأنهم لا يتمالكون، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان: { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } مما ظهر؛ لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة. ومثله يكون قليلاً: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ } الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها، فتخلصوا في الدين، وتوالوا المؤمنين، وتعادوا الكافرين: { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي: من أهل العقل. أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت: يجوز أن يكون لا يألونكم صفة للبطالة. وكذلك قد بدت البغضاء. كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالاً، بادية بغضاؤهم. وأما قد بينا فكلام مبتدأ. وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. ثم بين تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله:
{ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ ... }.