{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } عطف على ( الكتاب ) أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه. أو على ( الحق ) أي: أنزلناه بالحق وبـ ( أن احكم ) ويجوز أن يكون جملة، بتقدير: وأمرنا أن احكم. وفي التعرض لعنوان إنزاله تعلى إياه، تأكيد لوجوب الامتثال، وتمهيد لما يعقبه من قوله: { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي: يصرفوك عنه. وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب. كإعادة ( ما أنزل الله ): { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني بذنب التولّي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع ( ببعض ذنوبهم ) موضع ذلك. وأراد: أن لهم ذنوبة جمة كثيرة العدد. وأن هذا الذنب -مع عظمة - بعضُها وواحد منها.. وهذا الإبهام لتعظيم التولي, واستسرافهم في ارتكابه, ونحو ( البعض ) في هذا الكلام ما في قول لَبِيد. ( أو يرتبطْ بَعْضَ النفوسِ حِمَامُهَا.. ! ) أراد نفسه. وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام. كأنه قال: نفساً كبيرة ونفساً أي: نفس. فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية, فكذلك إذا صرح بالبعض. كذا في " الكشاف ".
وفي " الحواشي ": ومثل هذا قوله تعالى: { { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [البقرة: 253]. أراد محمداً صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم؛ وقيل: أراد العذاب في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب. ولقد تلطف القائل:
وأقول بعض الناس عنك كنايةً خوفَ الوشاة، وأنت كلُّ الناس
{ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي: المتمردون في الكفر معتقدون فيه؛ وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة. يعني: إن التوليّ عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. والجملة اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبله. ونظيرها قوله تعالى: { { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]. وقوله تعالى: { { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام: 116].
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوما، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس؛ بعضُهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد ! إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم. وأنا -إن اتبعناك -اتبعنا يهودُ، ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عزّ وجلَّ فيهم: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ... } الآية.