التفاسير

< >
عرض

قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
٣١
-الأنعام

محاسن التأويل

{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ } أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها، أو هو مجرى على ظاهره، لأن منكر البعث منكر للرؤية - قاله النسفيّ - والثاني هو الصواب، وإن اقتصر كثيرون على الأول، وجعلوه استعارة تمثيلية لحالهم بحال عبدٍ قدم على سيده بعد مدة، وقد اطّلع السيد على أحواله. فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله، أو بسخط لما يسخط منها - فإنه نزعة اعتزالية، ولا عدول إلى المجاز ما أمكنت الحقيقة. وفي كلام النسفي إشعار بأن اللقاء معناه الرؤية، وهو ما في القاموس. قال شارحه الزبيديّ: وهو مما نقدوه، وأطالوا فيه البحث، ومنهوه. وقالوا: لا يلزم من الرؤية اللقيّ، كالعكس. وقال الراغب: هو مقابلة الشيء ومصادفته معاً، ويعبّر به عن كل منهما. ويقال ذلك في الإدراك بالحسّ والبصر. لطيفة: قال الخفاجي في " العناية ": قيل: روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نظم أبياتاً على وفق هذه الآية، وفي معناها وهي:

زعم المنجمُ والطبيبُ، كلاهما لا تُحْشَرُ الأجساد. قلتُ إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي، فالخسار عليكما

قال الخفاجي: لا أدري من أيهما أعجب؟ الرواية أم الدراية؟ فإن هذا الشعر لأبي العلاء المعرّي في ديوانه وهو:

قال المنجمُ والطبيبُ، كلاهما: لا تُحْشَرُ الأَجْسَادُ. قلت: إليكما
إن صحّ قولكما فلست بخاسرٍ أو صحّ قولي، فالخسار عليكما
أحي التَُّقى والشر يصطرعان في الدّ نيا، فأيهما أبرّ لديكما
ظهّرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما
وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خَلَدِي بذاك، فَأَوْحِشا خَلَدَيْكما
وبكرت في البَرْديْن أبغي رحمة منه، ولا تَرِعَانِ في بَرْدَيكما
إِن لم تَعُدْ بيدي منافع بالذي آتى، فهل من عائدٍ بيديكما
بُرْدُ التقيّ، وإن تهلهل نسجُه خير، بعلم الله، من بُرْديكما

قال ابن السيد في " شرحه ". هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عنه، أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا وهلكتَ. فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده. وهذا الكلام، وإن خرج مخرج الشك. فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه. مع أن المناظر علي ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.
وقوله: ( إَلَيْكُما ) كلمة يراد بها الردع والزجر. ومعناها: كُفَّا عما تقولان، وحقيقته: قولكما مصروف لكما، لا حاجة لي به. انتهى.
ومن له معرفة بقرض الشعر، يعلم أنه شعر مولد.
ثم نبه الخفاجيّ على أن هذا النوع يسمى استدراجاً. قال في " المثل السائر ": الاستدراج نوع من البالغة استخرجتُه من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة، وليس منها. كقوله تعالى:
{ { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } [غافر: 28]. ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: [إن يك كاذباً فهذه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به]، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى. فإنه نبيّ صادق، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به، لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم، لا فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشتطّ مشدّد. أراهم أنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له، ويحام عنه، حتى لا ينفروا عنه. ولذا قدم قوله: { كَاذِباً }، ثم ختم بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } الخ، يعني: أنه نبيّ على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده. وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى. انتهى.
وقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي: جاءتهم القيامة فجأة. وسميت القيامة ( ساعة ). لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها أحد إلا هو تعالى. والمعنى: جاءتهم منيّتهم. على أن المراد بالساعة، الصغرى. قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً }. ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. انتهى. ( وبغتة ) مصدر في موضع الحال، لأي: مباغته، أو مصدر لمحذوف، أي: تبغتهم. أو للمذكور. فإنّ ( جاءتهم )، بمعنى ( بغتتهم ).
{ قَالُوا } يعني: منكري البعث، وهم كفار قريش، ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد: { يَا حَسْرَتَنَا } أي: يا ندامتنا ! والحسرة: التلهف على الشيء الفائت. وذكرتْ على وجه النداء للمبالغة. والمراد: تنبيه المخاطبين على ما وقع بهم من الحسرة { عَلَى مَا فَرَّطْنَا } أي: قصرنا: { فِيهَا } أي: في الحياة الدنيا. أضمرت وإن لم يجر ذكرها، للعلم بها، أي: على ما ضيعنا فيها، إذ لم نكتسب من الاعتقادات والأخلاق والأعمال ما ينجينا، أو الضمير للساعة، أي: على ما فرطنا في شأنها، ومراعاة حقها، والاستعداد لها، وبالإيمان بها، واكتساب الأعمال الصالحة.
وقال ابن جرير: الضمير يعود إلى الصفقة التي دل عليها قوله: { قَدْ خَسِرَ } الخ. إذ الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. قال: والمعنى قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته. ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك. حتى تقوم الساعة. فإذا جاءتهم الساعة بغتة، فرأوا ما لحقهم من الخسران في ببيعهم، قالوا حينئذ تندماً: { يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا }.
وقوله تعالى: { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } حال من فاعل: { قَالُواْ }، فائدته الإيذان بأن عذابهم ليس مقصوراً على ما ذكر من الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون، مع ذلك، تحمل الأوزار الثقال. والإيماء إلى أن تلك الحسرة من الشدة، بحيث لا تزول ولا تُنْسَى بما يكابدونه من فنون العقوبات - قاله أبو السعود -.
والأوزار: جمع وزر، وهو في الأصل: الحمل الثقيل، سمي به الذنب لثقله على صاحبه. قيل: جعلها محمولة على الظهور استعارة تمثيلية، مثل لزومها لهم، على وجهلاً يفارقهم، بذلك. وخص الظهر، لأنه المعهود حمل الأثقال عليه. كما عهد الكسب بالأيدي. وقيل: هو حقيقة، لما روي عن السّدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك ! قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال: ما أنتن ريحك ! قال: كذلك كان عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك ! قال فيقول: إن عملك كان دنساً. قال من أنت؟ قال: أنا عملك. قال: فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه، حتى يدخله النار. فذلك قوله تعالى: { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الآية.
قال الخفاجي: ولعل هذا تمثيل أيضاً. وقريب منه ما قيل: من قال بالميزان، واعتقد وزن الأعمال، لا يقول إنه تمثيل. انتهى. { أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي: بئس ما يحملونه.