التفاسير

< >
عرض

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
١٢
-الأعراف

محاسن التأويل

{ قَالَ } سبحانه وتعالى: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } أي: أن تسجد كما وقع في سورة: { ص }، و لا، مزيدة للتنبيه على أن الموبّخ عليه ترك السجود، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه، كما في قوله تعالى: { { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [الحديد: 29]، كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.
وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة لا النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقاً، بل إذا صحبت نفياً مقدماً أو مؤخراً صريحاً أو غير صريح، كما في: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }، وكما هنا، فإنها تؤكد تعلق المنع به. انتهى.
وقيل: ما منعك، محمول على ما حملك وما دعاك، مجازاً أو تضميناً. وقال الراغب: المنع ضد العطية، وقد يقال في الحماية، والمعنى ما حماك عن عدم السجود؟ ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود، مع علمه به، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام، كما أوضحه قوله تعالى: { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } قال ابن كثير: هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب. انتهى.
وإنما قال هذا ولم يقل: منعني كذا، مطابقة للسؤال، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة، ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله.
فالجملة متضمنة لجواب بقياس استدلاليّ؛ وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمرود. وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، لأنها جوهر نورانيّ، وهو ظلمانيّ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }. أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي }، وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواصّ ليست لغيره.
وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته، يشرف بفاعله وغايته وصورته، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه، فاستبان غلطه.
وفي " اللباب " أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق، وأخطأ طريق الصواب، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمله، مع سابقة شقائه على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، والاستخفاف بأمر ربه، فأورده ذلك العطب والهلاك.
ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام، مع سابقة سعادته، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " . رواه مسلم.
تنبيه
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى:
{ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال: قال إبليس وهو أول من قاس.
وأخرج أيضاً بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.
قال الرازي: بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة: { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، والأشرف لا يجوز أن لا يؤمر بخدمة الأدنى، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك.
وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم، وما ذاك إلا لعدم جوازه، وأيضاً ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر: وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: { فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكونُ لَكَ أَن تَتكبَّرَ فِيهَا } فوصفه الله تعالى بكونه متكبراً، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبّر على الله.
ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء.
ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد مما نقله الواحديّ في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس، هذا ما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس، وأفاده الرازي.
وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس، وعن مسروق قال: لا أقيس شيئاً بشيء، فتزلّ قدمي بعد ثبوتها.
وعن الشعبي: إياكم والقياس، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، ولأن أتغنى غنية، أحب إليّ من أن أقول في شيء برأيي.
وقد ذكر الحافظ ابن عبد البررحمه الله من هذا المعنى آثاراً وافرة في " جامع بيان العلم وفضله " وقال: احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها، وقالوا في حديث معاذ: إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة، وتكلم داود في إسناد حديث معاذ، وردّه ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ، ولم يُسَمُّوا، قال الحافظ ابن عبد البر: وحديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول، ثم قال: وسائر الفقهاء قالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل، أو القياس الذي يردّ به أصل، والقول في دين الله بالظن، ألا ترى إلى قول من قال منهم: أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس ردّ أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن، وإذا صح النص من الكتاب والأثر بطل القياس
{ { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [الأحزاب: 36] الآية، و أي: أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود، وهو العالم بما خُلق منه آدم، وما خلق منه إبليس؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء، فهذا ومثله لا يحلّ ولا يجوز، وأما القياس على الأصول، والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف، وبل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل، مخالف للسلف في الأحكام.
وقال مسروق الوراق:

كنا من الدين قبل اليوم في سعةٍ حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس
أما العُرَيب فقوم لا عطاء لهم وفي الموالي علاماتُ المفاليس

فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:

إذا ما أهل مصرٍ بادَهونا بآبدةٍ من الفُتيا لطيفهْ
أتيناهم بمقياسٍ صحيحٍ صَليبٍ من طراز أبي حنيفهْ
إذا سمِعَ الفقيهُ بهِ وَعاهُ وأثبته بحِبر في صحيفهْ

قال ابن عبد البر: اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن، فقال:

إذا ذو الرأي خاصَمَ عن قياسٍ وجاء ببدعة منه سخيفهْ
أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرّزَةٌ شريفهْ

هكذا حكاه ابن عبد البر في " جامع فضل العلم "، وله فيه في باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.
ومما ذكر فيه: أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة، وتجاوزوا الحدّ. قال: والسبب الموجب لذلك، عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما، وأكثرُ أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل النظر، وكان ردّه لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي وجُلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعاً لأهل بلده، كإبراهيم النَّخَعِي وأصحاب ابن مسعود، إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف، ثم قال: وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً، وهو يوجد لغيره قليل.
قال: لليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصاً.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم - أي: الصحابة - على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها. انتهى.
وقال ابن تيميةرحمه الله في فتوى أخرى: والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضاً.
والقياس الصحيح نوعان:
أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقاً غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح
"أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم " ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصاً بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: أن [في المطبوع: إنه] أي: نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهرّ الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن.
ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها، و الاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك، خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمّخة بخلوق فقال: انزع عنك الجبة الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك.
فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه، كان الحكم كذلك بالإجماع.
والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجوداً في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياساً صحيحاً.
فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فهم مراد الشارع، فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك، لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص، منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره.
وإذا عين الشارع مكاناً أو زماناً للعبادة، كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة، والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى:
{ { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } [التوبة: 37] وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: { { إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ للَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } [البقرة: 275] وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكّي وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }. فهذه الأقيسة الفاسدة، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من الحق منصوصاً بمنصوص يخالف حكمه، فقياسه فاسد. وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد. لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقاُ فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.
ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته، فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها.
ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أفعال المكلفين.
ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله:
{ { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة: 196] و: { { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } [الشورى: 17]، فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل. والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياساً صحيحاً، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحراً في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأنيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص.
وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق، اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم.
ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى:
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا - والله أعلم - انتهى كلامهرحمه الله .