التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٢٦
-الأعراف

محاسن التأويل

{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } يعني ما يلبس من الثياب وغيره.
قال الزمخشري: جعل ما في الأرض منزلاًَ من السماء، لأنه قضى ثمة وكتب، أي: قضى وقسم لكم، وقضاياه وقسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح المحفوظ.
وقال أبو البقاء: لما كان الريش واللباس ينبتان بالمطر، والمطر ينزل، جعل ما هو المسبب بمنزلة السبب. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له في معنى النزول: لا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة، في اللباس والأثاث، وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله، فإنه ينزله من ظهور الأنعام، وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار، وينتفع به بنو آدم في اللباس والرياش، فقد أنزلها عليهم، وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب، فهي لدفع الحر والبرد، وأعظم مما يصنع من القطن والكتان.
{ يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } أي: يستر عوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق، وأنتم مستغنون عن ذلك.
{ وَرِيشاً } عطفه إما من عطف الصفات، فوصف اللباس بشيئين: مواراة السوأة والزينة، فالريش بمعنى الزينة، لأنه زينة الطير فاستعير منه، وأما من عطف الشيء على غيره، أي: أنزلنا لباسين:
لباس مواراة، ولباس زينة، فيكون مما حذف فيه الموصوف، أي: لباساً ريشاً، أي: ذا ريش، والريش مشترك بين الاسم والمصدر.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه: الريش المال، وحكاه غير واحد من السلف، قال الإمام ابن تيمية: وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال، والمراد به مال مخصوص، قال ابن زيد: جمالا، قال ابن السكيت: الرياش هو الأثاث من المتاع والأموال، وقد يكون في الثياب دون الأموال، وإنه لحسن الريش، أي: الثياب. انتهى.
ويقال: راش فلان، أي: جمع الريش، وهو المال والأثاث. وراش الصديق أطعمه وسقاه وكساه، وأصله من الريش كأن الفقير المملق لا نهوض له، كالمقصوص منه الجناح وكل من أوليته خيراً، فقد رشته، كذا في تاج العروس.
فائدة
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة عن عُمَر بن الخطاب قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:
" من استجد ثوباً فلبسه، فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في ذمه الله تعالى وفي جوار الله، وفي كنف الله حياً وميتاً " . ورواه الترمذي وابن ماجة، وروى الإمام أحمد عن أبي مطر أنه رأى علياً رضي الله عنه أتى غلاماً حدثاً، فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، ويقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عند الكسوة: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي.
ولما بين تعالى ساتر الظاهر وزينته، أشار إلى ساتر عيوب الباطن وزينته بقوله: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } أي: خشية الله، أو الإيمان، أو السمت الحسن، والكل متقارب، ورفعة بالابتداء خبره جملة: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أو خيرٌ، وذلك صفته، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير.
قال المهايمي: لأن الظاهر محل نظر الخلق، والباطن محل نظر الحق، والعيوب الباطنة أفحش من العورات الظاهرة.
وقال القاشاني: لباس التقوى صفة الورع والحذر من صفة النفس، ذلك خير لأنه من جملة أركان الشرائع، لأنه أصل الدين وأساسه، كالحمية في العلاج. انتهى.
قال أبو علي الفارسي: معنى الآية: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله تعالى، مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به، قال: وأضيف اللباس إلى التقوى، كما أضيف إلى الجوع في قوله:
{ { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [النحل: 112]. انتهى.
أي: فهو استعارة مكنية وتخييلية بأن يتوهم للتقوى حالة شبيهة باللباس، تشتمل على جميع بدنه، بحسب الورع والخشية من الله، اشتمال اللباس على اللابس، أو من قبيل لجين الماء. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ( ولباس التقوى ) بالنصب، عطفاً على ( لباساً ).
{ ذَلِكَ } أي: إنزال اللباس: { مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } الدالة على فضله ورحمته على عباده { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي: نعمته عليهم فيعرفون عظمتها فيشكرونها.
قال الزمخشري: وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
تنبيه
قال الجشمي: تدل الآية على عظيم نعمه تعالى بهذه النعم التي عدها، وذهب علي بن موسى القمي إلى أنها تدل على وجوب ستر العورة، وقال آخرون: لا تدل، وليس في الظاهر إلا الإنعام به من حيث نفي الحر والبرد وستر العورة والتجمل به، فأما أنه واجب، فبعيد، ولو ثبت وجوبه عليه، احتجنا إلى وجوبه في شريعتنا إلى دليل مستأنف، وقد ثبت في هذه الشريعة وجوبه بالخبر المستفيض والإجماع، فلا حاجة إلى الرجوع إلى شريعة أخرى.
وتدل على أنه تعالى كما أنعم بنعم الدنيا، أنعم بنعم الدين، فإن الأقرب أن لباس التقوى العلم والعمل الصالح، فكأنه ضم إلى نعم الدنيا نعم الدين التي بها يحصل الفوز بالثواب، فتحصل نعمة الدارين.