التفاسير

< >
عرض

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٨٤
-الأعراف

محاسن التأويل

{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } أي: وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: { { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } [الحجر: 74]، أي: طين متحجر.
قال المهايمي: ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.
وقرأت في التوراة المعربة، أن الملكين اللذين جاءا لوطاً عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك ههنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنا بعَثَنَا الرب لنهلك هذه المدينة. ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعاً وصيراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منك إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل. ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً، وقلب تلك المدن، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونَبْتَ الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نُصُبَ مِلْح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتُون. انتهى.
وقرأت في نبوة حَزْقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه: إن الإستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينه الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت. انتهى.
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، أو بحيرة لوط، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً.
قال في " مرشد الطالبين ": بحر لوط، هو بحر سدوم، ويدعى أيضاً البحر الميت، وهو بركة مالحة في فلسطين، طولها خمسون ميلاً، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدماً، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم. انتهى.
وقوله: { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي: هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم.
والنظر تعجيباً من حالهم، وتحذيراً من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفساً وجسداً، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.
تنبيه في حد اللوطي
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكراً، كذلك المفعول به إذا كان مختاراً، لحديث ابن عباس، عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من وجدتموه يعمل عمل قو لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به " . قال ابن حجر: رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافاً.
وأخرج ابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا " - وإسناده ضعيف -.
قال ابن الطلاع في " أحكامه ": لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة - انتهى.
وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً.
وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولاً، علي بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار.
وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم. وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً، أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً، ثم يتبع بالحجارة. وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك.
وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الإجتهاد في هيئته حرقاً أو تردية أو غيرهما.
وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصناً أو غيره، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. انتهى.
وقال الإمام الجشمي اليمني: لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لما كتب إليه خالد بن الوليد.
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به - رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح - وقال الترمذي: حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: يرمى من شاهق، وقال علي كرم الله وجه: يهدم عليه حائط، وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته.
وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه " . وروي أيضاً عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه. وفي حديثه أيضاً بالإسناد: " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه " . وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال، فكون حده أغلظ. وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حده حد الزاني. واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن: حده حد الزاني. وقال أبو سلمة: يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي: يعزّر، وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث. انتهى.
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث " الهداية " في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي: أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولاً علي، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك. قال ابن حجر: قلت: وهو ضعيف جداً، ولو صح لكان قاطعاً للحجة. انتهى.
وجليٌّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعي الدلالة. ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراءاً لدينه - والله أعلم -.