التفاسير

< >
عرض

بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١
-التوبة

محاسن التأويل

{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } خبر لمحذوف، وتنوينه للتفخيم، أي: هذه براءة، أو مبتدأ مخصص، وخبره: { إلى الذين }. و البراءة في اللغة انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة.
فإن قيل: حق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد، فلم لم تنسب إليهم، ونسبت إلى الله ورسوله؟
أجيب: أن: { عاهدتم } إخبار عن سابق صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة، فنسب إلى الكل، كما هو الواقع، وإن كان بإذن الله أيضاً.
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدد، فكيف ينسب إليهم، وهم لم يحدثوه بعد، وإنما يسند إلى من أحدثه؟ وقال الناصر: إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين، لا يحسن أدباً، ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم:
" إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله، فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أولا! وإن طلبوا ذمة الله، فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك، خير من أن تخفر ذمة الله "
! فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله، مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله، وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.
وقال الشهاب: ولك أن تقول: إنما أضاف العهد إلى المسلمين، لأن الله علم أن لا عهد لهم، فلذا لم يضف العهد إليه، لبراءته منهم، ومن عهدهم في الأزل. وهذا نكتة الإتيان بالجملة إسمية خبرية، وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم، ولذا دلت على التجدد. انتهى.
قال ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي بالناس: { براءة من اللَّه ورسوله }، فلما قفل، وأتبعه بعلي بن أبي طالب، لكونه مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم، ولكونه عصبةٌ له، كما سيأتي.