التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-التوبة

محاسن التأويل

{ فَإِذَا انسَلَخَ } أي: انقضى { الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أي: التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض، وحرم فيها قتالهم { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي: من حلٍّ أو حرمٍ - كذا قاله غير واحد -. قال ابن كثير: هذا عام، والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: { { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم } [البقرة: 191]. { وَخُذُوهُمْ } أي: ائسروهم { وَاحْصُرُوهُمْ } أي: احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ } أي: لقتالهم، { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي: طريق وممرّ { فَإِن تَابُواْ } أي: عن الكفر { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } أي: فاتركوا التعرض لهم { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
تنبيهات
الأول: ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرام أشهر العهد، هو الذي اختاره الأكثرون. سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم، فالألف واللام للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها. وقيل: المراد بالأشهر الحرام: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر، واختاره ابن جرير. وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر.
قال ابن القيم: الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله:
{ { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم } [التوبة: 36]، فإن تلك واحد فرد هو رجب، وثلاثة سرد وهي ذو العقدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.
وقالوا: يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر، وتكلف الجواب بنسخها، إما بانعقاد الإجماع عليه، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، مع أن هذا الإجماع كلاماً، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في " العناية ". وفيها: إن لك أن تقول: منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها، بل هو مسكوت عنه، فلا يخالف الإجماع، ويكون حلّه معلوماً من دليل آخر.
وأقول: يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة، وأن قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } هي هذه الأربعة، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.
قال في " فتح البيان ": ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم، التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوماً، تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم. انتهى.
ولا يقال: إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوماً، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة، بسبب النسيء، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن الزمان قد استدار " الحديث، لأنا نقول: كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم، لا في الواقع، وكذلك ذو الحجة، المحرم، فعوملوا بحسابهم.
الثاني: قال السيوطي في " الإكليل " في قوله تعالى: { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة. انتهى.
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد:
{ { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [محمد: 4] ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد، ومقتضى كلام الحاكم، أنها لا ناسخة ولا منسوخة، قال: لأن الجمع من غير منافاة ممكن، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض، فالمراد به إعراض إنكار، لا تقرير، وأما الأسر والفداء، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك، لا أن القتل حتم، إذ لو كان حتماً، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل. انتهى.
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم، واستدل بقوله تعالى: { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم.
الثالث: فهو من قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُواْ } الآية، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة: التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر. ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة، على هذا الآية الكريمة وأمثالها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وعنهما وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " .
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم " . رواه البخاري وغيره.
الرابع: ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة، قالرحمه الله :
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه:
{ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر ُقُمْ فَأَنْذِرْ } [المدثر: 1، 2] فنبأه بقوله: { { اقرأ } [العلق: 1]، وأرسله بـ: { { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [المدثر: 1] ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن لم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.
ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده.
ولما نزلت سورة براءة، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم.
وقسماً لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. فقتل الناقص لعهده، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن. وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويَكِلَ سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلّي عليه وأن يقوم على قبورهم، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. انتهى.