التفاسير

< >
عرض

لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٦٦
-التوبة

محاسن التأويل

{ لا تَعْتَذِرُوا } أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الإشتغال به وإدامته إذ أصله وقع { قَدْ كَفَرْتُمْ } أي: أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي: بعد إظهاركم الإيمان.
تنبيه
قال في " الإكليل ": قال إلكيا: فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء، وأن الإستهزاء بآيات الله كفر - انتهى -.
قال الرازي: لأن الإستهزاء يدل على الإستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.
وقال الإمام ابن حزم في " الملل ": كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى، واستخفاف به، أو بنبيّ من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته عزَّ وجلَّ، فلا يحلّ سماعه، ولا النطق به، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به. ثم ساق الآية.
وقوله تعالى: { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } أي: لتوبتهم وإخلاصهم، أو تجنبهم عن الإيذاء والإستهزاء { نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي: مصرّين على النفاق، أو مُقدمين على الإيذاء والإستهزاء.
تنبيه
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة:
قال ابن إسحاق: كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عَمْرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مُخَشَّن بن حُمَيّر، ويقال مَخْشِيّ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً. والله! لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله! لوددت أن أقاضى على أن يُضرَبَ كل منا مائة جلدة، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن، لمقالتكم هذه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر:
" أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قلتم: كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت - و رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته -: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ }. وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله! قعد بي إسمي وإسم أبي، وكان الذي عُفِيَ عنه في هذه الآية مخشن، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل بيوم اليمامة، فلم يوجد له أثر انتهى.
وقال عِكْرِمَة: ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعر منها الجلود، وتوجَل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتيلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وُجِدَ غيره.
ومما روي في استهزائهم أن رجلاً من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى النبيّ صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال:
{ { أَبِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآيَاتِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } الآية [التوبة: 65]، وهو متعلق بسيف الرسول، وما يلتفت إليه صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: الطائفة في اللغة أصلها الجماعة، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة. انتهى.
وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب.