التفاسير

< >
عرض

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٣
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٤
-هود

تفسير المنار

بدئت هذه السورة بذكر القرآن وموضوع دعوته العامة وحال الناس فيها، وبيان طباعهم وشئونهم الرديئة إلا ما هذبته هداية الدين منها، وهذه الآيات خاصة بتكذيب المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، وقد بدئت ببيان غمه وحزنه وضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - من تكذيب قومه وتأكيد تبليغه ويليه تحديه به المثبت لوحيه.
{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك }، المتبادر إلى الفهم من جملة لعل بحسب موقعها هنا الاستفهام الإنكاري المراد به النهي أو النفي، أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك، مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك والإنذار والوعيد الشديد لهم والنعي عليهم، وضائق به صدرك أن تبلغهم إياه كله كما أنزل كراهة { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } أي هلا أعطاه ربه كنزا من لدنه يغنيه في نفقته ويمتاز به على غيره، فالكنز: ما يدخر من المال في الأرض، عبروا به عما ينال بغير كسب، وبإنزاله عليه على كونه من عند الله يخصه به
{ أو جاء معه ملك } يؤيده في دعوته، وهم قد قالوا ذلك كما جاء في سورة " الفرقان ":
{ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } [الفرقان: 7-8] أي إن ضيق الصدر وكتمان بعض الوحي مما يخطر بالبال، وشأنه أن تقتضيه الحال، بحسب المعهود من طباع الناس، فهل أنت مجترح لهذا الترك، أو مستسلم لما يعرض لك بمقتضى البشرية من ضيق الصدر؟ كلا لا تفعله. فهو كقوله: { ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } [النحل: 127] وقوله: { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين } [الأعراف: 1-2] وقوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } [الكهف: 6] وقوله { طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } [الشعراء: 1-4] أي لعلك قاتلها غما وانتحارا؟ أي لا تفعل، وحاصله أن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم فيما ليس أمره بيدك، مما شأنه أن يفضي إلى ذلك لولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك، فهل تصر عليه حتى تبخع نفسك؟ لا لا، ويوضح هذا المعنى في كون الإرشاد مبنيا على بيان الواقع في تلك الوقائع قوله - تعالى -: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } [الإسراء: 74].
{ إنما أنت نذير } فعليك أن تبلغ جميع ما أمرت أن تبلغه وتنذر به في وقته وإن ساءهم وأطلق ألسنتهم { والله على كل شيء وكيل } أي هو الموكل بأمور العباد والرقيب عليهم فيها، وليس عليك منها شيء ; لأنها من أمور الخلق والتدبير لا من موضوع التعليم والتبليغ، الذي هو وظيفة الرسل. كما قال في آيات أخرى:
{ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } [البقرة: 27] و: { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } [الغاشية: 21-22] و: { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } [ق: 45].
ومن مباحث اللغة في الآية أن كلمة ((لعل)) للترجي والتوقع، وفي لسان العرب أنها رجاء وطمع وشك. وقالوا: إنها من الله - تعالى - للقطع في مثل قوله:
{ واتقوا الله لعلكم تفلحون } [البقرة: 189] وقال شيخنا إنها للإعداد والتهيئة ; أي ليعدكم ويؤهلكم للفلاح بالتقوى، وحققنا أنها قد تكون لإطماع المخاطب وإحداث الرجاء عنده وهو مروي عن سيبويه. وحصر ابن هشام معانيها في ثلاث:
1 - التوقع: وهو ترجي المحبوب، والإشفاق من المكروه.
2 - التعليل: قال وحملوا عليه قوله - تعالى - في فرعون:
{ لعله يتذكر أو يخشى } [طه: 44]
3 - الاستفهام: وأسنده إلى الكوفيين (أقول): وإذا كانت للاستفهام يدخل فيه أنواعه كاستفهام الإنكار المراد به النهي أو النفي، واختاره بعضهم في هذه الآية قبلنا.
{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن قل لهم أيها الرسول: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم، لا تدعون أنها من عند الله فإنكم أهل اللسن والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لي شيء من ذلك في هذا العمر الطويل الذي عشته بينكم، وهو أربعون سنة، فإن كان من جنس كلام البشر فأنتم به أجدر، وإن كانت أخباره عن الله - تعالى - وعن عالم الغيب عنده وقصصه عن الرسل وأقوامهم مفتريات فأنتم على مثلها أقدر فإنكم تعلمون أنني أصدقكم لسانا لم أكذب على بشر قط، فكيف أفتري على الله عز وجل وأنتم تفترون عليه باتخاذ الآلهة معه والبنات له والشفعاء عنده، وتحريم السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، وغير ذلك من الزرع والأنعام،
وإن كنتم تزعمون أن لي من يعينني على وضعه ممن لا وجود لهم بالفعل ولا بالإمكان، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله ومن جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مثله مفتريات إن كنتم صادقين في دعواكم، بأن تكون مشتملة على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدني وسياسي، وحكم ومواعظ وآداب وأنباء غيبية محكية عن الماضي وأنباء غيبية على أنها ستأتي، بمثل هذه النظم البديعة، والأساليب العجيبة، والبلاغة الحاكمة على العقول والألباب والفصاحة المستعذبة في الأذواق والأسماع، والسلطان المستعلي على الأنفس والأرواح، إذا كان ما تحديتكم به أولا من سورة واحدة لا يتسع لكل الأجناس والأنواع، أو فأتوا بنوع مما تدعون افتراءه كالقصص في علومها وحكمها وهدايتها، مكررا كتكراره لكل أنواعها، هذا التكرار الذي لا تبلى جدته، ولا تمل إعادته.
هذه الآية كالآية 38 من سورة يونس، إلا أن التحدي في تلك بسورة مثله مطلقا، وفي هذه بعشر سور مثله مفتريات، وقد وعدت في تفسيرها بالكلام على حكمة التحدي بعشر سور عندما أصل إلى تفسير آية سورة هود هذه، ثم بدا لي أن أبينها هناك مجملة لئلا تخترمني المنية قبل بلوغ هذه الآية فبينتها في جواب ما يرد من الشبهة على المتكلمين في إعجاز البلاغة.
بل سبق لي أن بينت حكمة التحدي بعشر سور مثله مفتريات في تفسير آية سورة البقرة التي هي آخر آيات التحدي نزولا، ووضحت ذلك في الفصل الملحق به الذي عقدته لبيان وجوه الإعجاز، ولا سيما الوجه الأول منه وهو إعجازه بأسلوبه ونظمه العديدة وأساليبه الكثيرة في سوره المائة والأربع عشرة.
خلاصة ما تقدم أن المفسرين الذين لم يؤتهم الله - تعالى - حكمة التحدي بعشر سور مفتريات، زعموا أن الله - تعالى - تحدى فصحاء قريش الذين هم أفصح العرب ومن دونهم من سائر الخلق بالإتيان بمثل هذا القرآن في جملته، فلما عجزوا تحداهم بعشر سور مثله، فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة مثله، ثم بسورة من مثله ولكن هذا الترتيب لم يصح به نقل، بل المروي في ترتيب نزول السور يخالفه، فإن سورة هود نزلت عقب سورة يونس، وأجاب بعضهم بأن نزول سورة قبل أخرى لا يقتضي نزول جميع آياتها قبل جميع آياتها، وهذا الجواب إنما يقال فيما تصح الرواية في تأخر نزوله وتقدمه، ولا يصح بالتحكم المحض، فيما هو خلاف الأصل الثابت بالنقل، وأبعده عن التصور أن يكون في موضوع واحد في سورتين متعاقبتين.
وسبب غفلتهم عن هذه الحكمة، أنهم لم يطلبوها من التأمل في سور القرآن وما فيها من وجوه الإعجاز المكرر في سوره ; لأنهم اعتادوا أن يطلبوا معانيه من الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها، ومن مدلول كل آية منها وحدها في مفردات اللغة وجملها، بمقتضى القواعد الفنية أو الفقهية وأصولها، وقد بينت في تفسير آية البقرة أن أقوى شبهة للمعترضين على دعوى الإعجاز بالفصاحة والبلاغة، أن المعنى الواحد الذي يمكن التعبير عنه بعبارات مختلفة قد يسبق بعض الفصحاء إلى أعلى عبارة له وأبلغها، بحيث يكون كل ما عداها دونها، وأنه لا يدل على أن السابق لها قد تلقاها بوحي من الله - تعالى -. فإن مثله يوجد في كل اللغات، وذكرت مثلا لهم من القرآن على هذا، وأجبت عنها بأن القرآن يعبر عن المعاني الكثيرة بالعبارات المختلفة التي تعد كل منها في أعلى الدرجات ويعجز عنها جميع البلغاء ثم بينت في مباحث الوحي من تفسير يونس أن القاموس الأعظم لإعجاز القرآن اللفظي هو تكرار المعنى الواحد بالعشرات والمئات من العبارات المختلفة في النظم والأسلوب وبلاغة العبارة وقوة تأثيرها في قلوب القارئين والسامعين لها، وعدم وقوع الاختلاف بالتناقض أو التعارض في شيء منها كما قال:
{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [النساء: 82] وإنما يظهر هذا الإعجاز بنوعيه في السور العديدة وبينت في تفسير آية يونس وجه وصفها بمفتريات، وأعود هنا إلى بسط المسألة وفاء بالوعد فأقول:
الضمير المنصوب في افتراه يعود إلى القرآن للعلم به من سياق تبليغه، وقد حكى عنهم هذه التهمة في سورة أخرى منها ما تقدم قريبا في سورة يونس، وفيها وجهان:
(1) أنه افتراه في جملته بإسناده إلى الله - تعالى - وادعائه أنه كلامه أوحاه إليه، وقدمت الجواب عنه آنفا.
(2) أنه افترى أخباره التي يدعي أنها من عند الله; إذ لا يعلمها غيره وقد استدل بها على نبوته كما بينته في مباحث الوحي وفي تفسير آية يونس، وقد حكى الأمرين عنهم في سورة الفرقان بقوله:
{ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [الفرقان: 4-6] فأساطير الأولين قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها، وكانت العرب تسلي نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها خرافات وأكاذيب، فالتحدي بالسور العشر هو الذي يفند هاتين التهمتين الموجهتين إليه - صلى الله عليه وسلم - بأنهض حجة عملية، لا جدلية.
وبيانه أن هذا التحدي بالعشر يثبت به من بطلان دعواهم ما لا يثبت بالعجز عن سورة واحدة، ولا سيما إذا كانت قصيرة، ولهذا حسن مجيئه بعد التحدي بسورة واحدة مطلقا، خلافا لرأي الجمهور الذين غفلوا عن هذا المعنى، فظنوا أن التحدي بالعشر بعد العجز عن الواحدة لا وجه له ; لأن من عجز عن واحدة كان أعجز عن اثنتين فضلا عن عشر، فتفصوا من هذا بدعوى الترتيب المتقدم، وهو إنما يصح إذا كان موضوع التحدي متحدا مطلقا وهو هنا مختلف ومقيد.
ذلك بأن افتراء الأخبار المدعى في القرآن نوعان: (أحدهما) أنباء الغيب الماضية. وهي قسمان:
(1) قصص الرسل مع أقوامهم، وقد تحدى بها من ناحية كونها غيبيا لم يسبق له - صلى الله عليه وسلم - علم بها كما بيناه في محله، ومنه ما يأتي التصريح به في هذه السورة وما بعدها وفي غيرهما.
(2) أخبار التكوين ; كخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، كخلق الإنسان والجان، لا أذكر أنه صرح بالتحدي بها تحديا خاصا، ولا أنهم كذبوا بها وأنكروها، فهي لم تكن موضع نزاع، وكذلك أخبار السنن العامة في الخلق الواردة في سياق تعداد النعم كما تراه في سورة النحل، أو سياق آيات الله - تعالى - وحججه على عباده كما تراه في سورة الروم، وإنما جعلت هذه كلها قسما واحدا في هذا البحث لأنها ليست داخلة في تهمة الافتراء.
(وثانيهما) أنباء الغيب الآتية وهي قسمان أيضا:
(1) وعد الله بنصر رسوله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم في الأرض، وبخذلان أعدائه وأعدائهم الكافرين والانتقام منهم وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة، وهو ما كانوا يتمارون به ويكذبونه
(2) القيامة وبعث الخلق وحسابهم وجزاؤهم بعقائدهم وأعمالهم، وهو ما كانوا ينكرونه ويستبعدونه.
فأخبار الغيب التي كانوا يكذبونها ويزعمون أنها مفتراة هي ثلاثة:
(1) أخبار الآخرة.
(2) أخبار وعد الله لرسوله وللمؤمنين ووعيده لأعدائه في الدنيا وكلاهما من أنباء الغيب المستقبلة التي لا يظهر صدقها إلا بتأويلها، أي وقوع مدلولها.
(3) قصص الرسل - عليهم السلام - وهي أمور قد وقعت بالفعل، وهاك كلمة تفصيلية في عدد العشر في كل منها، يعلم بها ترجيح الثالث الذي سموه أساطير الأولين وهو المختار عندنا.
فأما آيات البعث والجزاء فكثيرة في جميع أنواع السور من أطولها إلى أقصرها التي هي سور قصار المفصل. وقد تكلمنا على وجه الإعجاز بتكررها المبثوث في مئات المواضع من السور الكثيرة المختلفة النظم بالأساليب العجيبة والبلاغة الدقيقة في الركن الثالث من أركان المقصد الأول من مقاصد القرآن، وأقول هنا: إن قصار المفصل المكية التي نزلت قبل سورة هود، ويحتمل أن تكون مرادة من هذه العشر كلها أو بعضها هي: التين، والعاديات، والقارعة والتكاثر، والهمزة، واللهب، فلا بد من تكميلها مما قبل سورة الضحى، ولا يظهر للتحدي بعشر مفتريات منها معنى لا يوجد في السورة الواحدة، ولا سيما إذا كانت طويلة، فهي غير مرادة بالعشر.
وأما آيات وعد الله لرسوله وللمؤمنين بالنصر، ووعيده الدنيوي للكافرين بالخذلان والعذاب، فلا يوجد في قصار المفصل شيء صريح منها، ولكن إشارات في بعضها (منها) سورة (الكوثر) وهي أقصر سورة في القرآن، ففيها الوعد الصادق للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإعطائه الخير الكثير الديني والدنيوي، ومنه الغنى بعد الفقر الذي كان أغنياء قومه يعيرونه به، والوعيد الصادق لعدوه العاص بن وائل الذي سماه أبتر عند موت ابنه القاسم، بأنه هو الأبتر الذي سينقطع ذكره بنسله وغير نسله، ويتضمن هذا الحصر الإضافي بقاء ذكره - صلى الله عليه وسلم - بذريته وبآثار هدايته، وكل ذلك وقع بالفعل، وقد بينت خلاصة تفسيرها في بحث إعجاز السور القصار من تفسير التحدي بآية سورة البقرة
(ومنها) سورة (اللهب) بناء على أن الجملة الأولى منها خبر بهلاك أبي لهب وامرأته، وإذا قيل إنها دعاء فمعناه الخبر وقد صدق، فقد مات أبو لهب شر ميتة خارج مكة وبقي ملقى حتى تفسخ وأنتن، وكان ذلك بعد غزوة بدر بأيام، وهي أول انتقام الله من عتاة قريش وتصديق وعده لرسوله في قوله:
{ يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } [الدخان: 16] ومثلها الوعيد في سورة العلق، وقد نزل في أبي جهل وصدق بقتله في غزوة بدر أشر قتلة، وفي معناهما الوعيد في سورة (المدثر) من وسط المفصل وقد نزل في الوليد بن المغيرة، وهو يشمل وعيد الدنيا والآخرة وقد صدق ووقع - فهذه أربع سور من قصار المفصل ووسطه، والوعد والوعيد فيها خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشد العتاة الذين بارزوه العداوة، ولكن لم يكن أحد من قريش بعد ذلك - ممن كانوا ينكرونه - من الوعيد له والوعيد لهم ; لأنه جزئيات متفرقة مجملة، لا وقائع فاصلة، فهي غير مرادة بالعشر أيضا.
ومن الوعيد العام للكفار كلهم في وسط المفصل قوله - تعالى - في سورة الجن من تبليغه - صلى الله عليه وسلم - الدعوة:
{ حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا * قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا } [الجن: 24-25] إلخ. وهذا بعد الوعد فيها بقوله: { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } [الجن: 16].
وجملة القول أنه ليس في قصار المفصل ولا في أوسطها عشر سور ناطقة بالوعد والوعيد الدنيويين فتكون هي المرادة بالتحدي.
وأما طوال المفصل ففيها شيء من الوعد والوعيد المبهم في سور الذاريات والطور والنجم والقمر; بمناسبة ذكر أقوام الرسل الذين انتقم الله منهم في الدنيا، ثم في سور الملك والقلم والحاقة والمعارج، ومجموع ما فيه يزيد على عشر، إن أريد التحدي بها أو دخولها فيما يتحدى بها في الآية، وإنما الصريح من الوعد والوعيد الذي هو الأحرى بأن يكون المراد فإنما هو في السور الطويلة مما فوق المفصل، ولكن هذا النوع كالذي قبله لا يظهر فيه تخصيص التحدي بعشر مفتريات ; لأنه مشترك مع الذي بعده في سوره، ولأن موضوعه مما لا يعرف صدقه لذاته إلا بوقوعه.
وجه التحدي بعشر سور من قصص القرآن:
وأما قصص الرسل - عليهم السلام - فهي التي تظهر فيها حكمة التحدي بالسور العشر على أتمها وأكملها من الوجوه اللفظية والمعنوية المختلفة، ويكون العجز عن معارضتها أقوى حجة وبرهانا على كونها من عند الله - تعالى - لا مفتراة من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده، ولا مما أعانه غيره عليه كما تصوروا وزوروا، لأن العجز عن مثلها عام كما سنفصله، على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدأ بهذه الدعوة بالقرآن وحده، وكان يتبعه الواحد بعد الواحد من أصدق الناس وأسلمهم فطرة مستهدفين باتباعه للإيذاء والاضطهاد، ولولا الإيمان بوعد الله لهم ووعيده لأعدائهم لما كان لأحد منهم أمل بالسلامة من الهلاك، فأي باعث يبعثهم على التعاون معه على تزوير كتاب على الله - عز وجل - يعادون به كبراء قومهم وعصبية أمتهم بما يفرقون به كلمتها ويضعفونها ويذلونها؟! وكيف يعرضون أنفسهم للهلاك، ويعرض المتمول منهم ماله للزوال لتأييد الكذب والافتراء، على فرض أنهم غير مؤمنين، وأنهم قادرون على الإتيان بمثل هذا القرآن؟ كل ذلك بديهي البطلان.
والفرق بين هذه القصص وسائر أخبار الغيب المستقبلة المكرر منها كوعيد الدنيا ووعدها وجزاء الآخرة، وغير المكرر كالأمثال المضروبة لإيضاح الحقائق أو للعبرة في سور النحل والكهف والقلم وغيرهن أن موضوعها وقائع بشرية تاريخية لها روايات متواترة في جملتها، بعضها مدون عند أهل الكتاب وغيرهم، وبعضها محفوظ عند العرب كأخبار عاد وثمود وإبراهيم وإسماعيل، فدعوى افترائها من أصلها مكابرة ظاهرة البطلان، والكلام فيها بغير علم عرضة لضروب من الخطأ اللفظي، وتكراره مزلة في مداحض التعارض والاختلاف المعنوي، والتفاوت والخطل البياني، ويظهر ذلك لكل أحد منهم ; لأنه من جنس معارفهم وما يعهدونه بينهم، لا كأمور الغيب في غير عالمهم، فتحديهم بعشر سور من جنسها كالتحدي بمعارضة مقامات الحريري لمقامات بديع الزمان وأمثالهما، يمكن لأهل اللسان أن يحكموا فيه بالتفاضل بينهما في بيانهما وحكمتهما ومعانيهما.
وقد جاءت أخبار الأنبياء مكررة في السور المكية على درجات في قلتها وكثرتها، تبتدئ بالآية والآيتين والثلاث لبعض هؤلاء الرسل في بعض السور، وترتقي في بعضها إلى منتهى جمع القلة أو تزيد قليلا، كما تراه في ((آل حمم)) من فصلت إلى الأحقاف، وفي أثناء سور الفرقان و ((ق)) والذاريات والنجم، وفي أول الحاقة والفجر وآخر البروج، فهذه سور تزيد على عشر فيها جميع أنواع الإعجاز اللفظي والمعنوي، ولكن هذه الأخبار فيها عبر لا تبلغ أن تكون قصصا.
وأما القصص فقد تبلغ في بعض سورها عشرات الآيات كيونس وإبراهيم والحجر والمؤمنون والعنكبوت، وتعد في بعضها بالصفحات لا بالآيات، ومنها ما أكثره في هذه القصص كالأعراف ومريم والنمل، ومنها ما ليس فيه من غيرها إلا خاتمة مختصرة كيوسف وطه والأنبياء والشعراء والقصص، أو فاتحة هي براعة مطلع وخاتمة هي براعة مقطع، كهود والصافات و ((ص)) وفي قصة نوح - عليه السلام - سورة في المفصل خاصة به وبقومه سميت باسمه على تكرارها في السور المختلفة، وكذلك سورة يوسف - عليه السلام - خاصة بقصته. كما أن سورتي طه والقصص في قصة موسى - عليه السلام - وحدها، على كثرة تكرارها في غيرهما.
بيد أن التحدي بالسور التي فيها القصص إنما يراد به التحدي بها كلها، لا بالقصص التي فيها دون غيرها، وقد علمت أنه لا يوجد في القرآن عشر سور ولا خمس ليس فيها شيء سواها، وأن أكثر السور التي فيها القصص الحقيقية وسط بين الطول والمفصل، فالأولى منها في المصحف وهي الأعراف من السبع الطوال وآياتها 206، وآيات القصص فيها 112 آية، وقبلها قصة النشأة الإنسانية وافتتاحها وختامها في دعوة الإسلام، وبعدها فيه سورة يونس، وهي 109 آيات وقصصها 23 آية، وتتلوها سورة هود، وآياتها 123 أكثرها في القصص، وهي أشبه السور بها في فاتحتها وخاتمتها وتحديها في إبطال الافتراء، والمأثور أنها نزلت بعدها متممة لها كما تقدم، فجملة ما نزل قبل سورة هود من سور القصص: الأعراف ويونس ومريم وهي 98 آية، وطه وهي 135 والطواسين: الشعراء وهي 227 والنمل وهي 93 والقصص وهي 88 وآياتهما أطول من آيات الشعراء ونزلن متعاقبات. ويليهن سورة القمر وهي 55 آية وسورة ((ص)) وهي 88 آية وقد نزلتا متعاقبتين بعد ما تقدم كله، فهذه تسع سور، وسورة هود هي العاشرة لهن.
مزايا قصص القرآن في إعجاز عباراتها:
وجميع هذه السور تختلف أناظيم سورها في أوزانها وفواصلها، وفي أساليب الكلام فيها، مع اتفاقها وتشابهها في الفصاحة والبلاغة البيانية، في الفصل والوصل، والقصر والحصر، ومواضع حروف العطف، وصيغ الاستفهام والنفي والشرط، والتعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، ودرجات التأكيد، والإطلاق والتقييد، والعموم والتخصيص، والإجمال والتفصيل، والإيجاز والتطويل، والحذف والتكرير، وفنون المجاز والكناية والتعريض، وغير ذلك من ألوان التعبير، كالالتفات والتضمين، وصيغ الأفعال وتعديتها، والقراءات التي تختلف معانيها، فإن لعبارات القرآن في ذلك كله من الدقة الغريبة، والمعاني العجيبة، ما لا يقرب منه شيء من كلام بلغاء البشر، ومن شأن اختلاف القصة الواحدة فيه أن تتعارض وتتناقض بتعدد التكرار وهي محفوظة منه، وقد عرضت لنكت الاختلاف بينها في المقابلة التي أوردتها في قصص سورة الأعراف مع غيرها.
ثم إنك تجد لكل لون من هذه الألوان من التعبير نغما خاصا به في الترتيل، ولكل منهما نوعا جديدا من التأثير، فاستمع لمرتل قصة موسى في سورة طه ساعة (زمانية لا فلكية) وفي سورة الشعراء ساعة ثانية، وفي سورة القصص بعدها وهي الثالثة الأخرى، وتأمل ما تجد من الفرق بينهن في سمعك، متدبرا ما تشعر به من الخشوع والعبرة في قلبك، والقصة واحدة، ثم جرب هذه المقارنة في القصص المتعددة من السور المختلفة في النظم والأسلوب، كهود والنمل ومريم والأنبياء والصافات و ((ص)) والقمر، تجد العجب العجاب، ولا تنس أنها جاءت على لسان رجل لم يكن من رجال البيان في يوم من الأيام.
إذا فطنت لما ذكر كله، بدا لك أن عجز البشر عن معارضة هذه القصص في جملة سورها، بفصاحتها وبلاغتها في كل أسلوب من أساليبها، وكل نظم من أناظيمها، لا يتحقق في سورة واحدة أو ثنتين أو ثلاث منها، وهأنذا قد ذكرت لك عشرا منها مختلفات متفقات متشابهات غير مشتبهات، ولكن حكمة العشر إنما تظهر على أكملها في الإعجاز المعنوي، فألق السمع إلى ما ألقيه إليك منها.
مزايا قصص القرآن في إعجازها العلمي:
إن وراء هذه الألوان والأشكال من الإعجاز الصوري، لأشعة من ضياء العلم والهدى والإعجاز المعنوي، هي أظهر وأجلى، وأدق وأخفى، وأجل وأعلى، ومجيئها على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا، أدل على كونها من عند الله - تعالى -، فتأمل ما أذكر به من مزاياها الدينية والعلمية وغيرها المتشعبة، منها:
(1) بيان أصول دين الله العامة المشتركة بين جميع أنبيائه المرسلين، من الإيمان بوجوده وتنزيهه وتوحيده وعلمه وحكمته، ومشيئته وقدرته، وعدله ورحمته، وغير ذلك من صفاته، والإيمان بالبعث والجزاء، والأمر بالمعروف والبر والإحسان وسائر الأعمال الصالحات، والنهي عن الفواحش والمنكرات العامة.
(2) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله - تعالى - لعباده، وأنهم لا يملكون فيما وراء التبليغ نفعا للناس - لا دينيا كالإيمان والتقوى، ولا دنيويا كالرزق والصحة، ولا كشف ضر عنهم كذلك - فقد كان أبو إبراهيم وابن نوح وامرأته وامرأة لوط من الكافرين.
(3) شبهة الأقوام على رسلهم بأنهم بشر، وأن آياتهم سحر، واقتراحهم عليهم نزول الملائكة والآيات الكونية الحسية، وردهم بأن آياتهم من فعل الله - تعالى - لا من كسبهم بقدرتهم.
(4) بيانهم لأقوامهم أن هداية الدين سبب لزيادة النعم في الدنيا وحفظها، كما أنها هي التي تنال بها سعادة الآخرة، وأن كلا منهما من كسبهم الاختياري.
(5) آيات الله وحججه على خلقه في تأييد رسله، وطرق الإنذار والتحدي، وما أكرم الله به أنبياءه من الخوارق الخاصة كالأولاد لإبراهيم وزكريا ومريم، وما ابتلى الله - تعالى - به يوسف - عليه السلام - وما آتاه من العلم والحكمة وتأويل الأحاديث (الرؤيا) وما كان من عاقبة اصطفائه له، ومن إدارته لملك مصر، وقصته مع أبيه وإخوته وما فيها من العبرة والموعظة.
(6) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وآل فرعون وملئه في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فحشهم، وعاد في قوتهم وبطشهم، وثمود في أشرهم وبطرهم، ومدين في تطفيفهم وإخسارهم لمكاييلهم وموازينهم، وبني إسرائيل في تمردهم وجمودهم.
(7) بيان سنن الله - تعالى - في استعداد الناس النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر، والخير والشر، والهدى والضلال، واستكبار الرؤساء والزعماء المترفين والمقلدين للآباء عن الإيمان والإصلاح، وكون أول من يهتدي به المستضعفين والفقراء، وفي عاقبة الكفر والجحود، والبغي والظلم والفسوق.
(8) ما في قصص الأقوام من المسائل التاريخية، والموضعية والوطنية كفرعون وحال قومه معه في خنوعهم وخضوعهم، وفنونهم وسحرهم، وعمرانهم وعظمة ملكهم، وحال بني إسرائيل معه في استعباده إياهم وظلمه لهم، ثم في إرثهم الأرض المقدسة بصبرهم وصلاحهم، ثم في سلبها منهم بكفرهم وفسادهم، وحال عاد قوم هود في قوتهم وبسطة خلقهم وجبروتهم، وثمود قوم صالح في استعمارهم الأرض ونحتهم الجبال واتخاذهم منها بيوتا حصينة أمينة، ومن سهولها قصورا جميلة، وغير ذلك، وكون كل ذلك لا يغني عن هداية الوحي الإلهي في إصلاح أنفسهم وتزكيتها وإعدادها لسعادة الآخرة الباقية، ولم ينج أولئك الأقوياء من عذاب الله لهم في الدنيا، وتنجية رسله والذين آمنوا لهم واتبعوهم.
(9) بيان سنن الله - تعالى - في الطباع والاجتماع، والتقدير والتدبير العام، وما في خلقه للعالم من الحكمة والرحمة والنظام، والعدل العام، وعدم محاباة الأفراد ولا الأقوام في نعم الدنيا ونقمها، ولا في الجزاء على الكفر والمعاصي والإيمان والطاعات في الآخرة ; فقد كان الرسل عليهم السلام يصرحون بكل ذلك. ومنه أن أحدهم لو عصى الله لعذبه ولما كان له من ناصر ينصره أو يمنعه من عقابه - تعالى - خلافا لتعاليم الأديان الوثنية التي جعلت الرؤساء آلهة أو أنصاف آلهة، أو وكلاء للرب في تدبير خلقه وتقسيم رزقه.
(10) الاحتجاج بكل ذلك على قوم خاتم النبيين ثم على سائر من تبلغهم دعوته من حقية رسالته، وكون العاقبة له ولمن اتبعه.
فقد علم من جملة هذه القصص في هذه السور، أن هؤلاء الرسل كانوا خير البشر، وأهداهم إلى أصح العقائد وأكمل الفضائل وأصلح الأعمال، وأن آثارهم في الهدى كانت أجل الآثار، وأنها كانت أفضل قدوة لأهل الأرض، وعلم منها أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن هو عين ما جاءوا به من ذلك كله، إلا أنه أتم وأكمل، وأعم وأشمل، فإنه مبعوث إلى جميع الأمم إلى نهاية بقاء الأحياء في هذا العالم. وكانت رسالة كل منهم إلى قومه خاصة.
فإن أمكن أن يكون هذا حديثا مفترى فإن مفتريه يكون أكمل منهم كلهم علما وعملا وهداية وإصلاحا، سواء أكانوا رسلا من الله - تعالى - أم لا، ويكون أجدر باتباع قومه وغيرهم له واهتدائهم بهديه، ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتي بحديث مثله، ولو مفترى في صورته وموضوعه، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، فإن الاحتذاء والاتباع أهون من الابتداء والابتداع، إذا كان لا يتجاوز القيل والقال، ولكن افتراء الأمي لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية والاجتماعية محال أي محال، وقد عجز عن مثلها حكماء العلماء، أفهكذا يكون الافتراء، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء حرصا على الشرك والجهل الذي كن عليه أولئك السفهاء؟!.
ثم إنك تجد هذه المعاني أو المعارف التي أجملتها في عشرة أنواع كلية (ويمكن تفصيلها والمزيد عليها بما قد يفتح الله - تعالى - على المتدبرين لكتابه) متفرقة في جميع تلك القصص من تلك السور، ولا نجد فيها على تكرارها تناقضا ولا تعارضا، ولا في عباراتها اختلافا ولا تفاوتا، على ما فيها من إيجاز وقبض، ومساواة وبسط، وهذا مما يعجز عنه البشر أيضا ولا يتحقق إلا بالتعدد، وإذا كانت لا توجد كلها مجتمعة في سورة ولا سورتين ولا ثلاث مما ذكرنا فأحرى بمن يدعي أنها من علم البشر وكلامهم أن يفسح له في التحدي بأن يأتي بعشر سور مثلها، تشتمل على هذه المزايا كلها ; فالتحدي بهذه السور توسيع على المنكرين إن تصدوا لمعارضتها لا تضييق عليهم، كما زعم من لم يفقه ما قررته ; لزعمهم أن إعجاز القرآن إنما هو ببلاغته التي فسروها بمطابقة الكلام لمقتضى الحال فقط، ولو صح هذا الزعم هنا لما كان للتحدي بالعشر بعد الواحدة وجه، بل لكان مشكلا من أول وهلة ; لأنه يكون من قبيل التجربة من غير العالم بعجزهم عن سورة واحدة، فضلا عن كونه لم يضرب له أجلا، ولم ينقل أنه كان له أجل علم بالفعل، ولا يرد شيء من هذا على قولنا ; فإن مثله كمثل من يكلف شاعرا أن ينظم قصصا مختلفة بقصيدة واحدة، ومن يوسع عليه بتكليفه أن ينظمها بعدة قصائد مختلفة الروي والقوافي. وإني لأعجب لدهاقي البلاغة الفنية كيف سكتوا عن حكمة هذا العدد إلا قول بعضهم إنه انتهاء إلى آخر جمع القلة؟.
وإنني أجزم هنا - بعد التأمل في جميع آيات التحدي وتاريخ نزول سورها - أنها لم يكن مراعى بها الترتيب التاريخي في مخاطبة المشركين كما زعم جمهور المفسرين، بل ذكر كل منها بمناسبة سياق سورته، فسورة الطور التي فيها:
{ أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } [الطور: 33-34] وهو تحد بجملته، قد نزلت بعد سورتي يونس وهود اللتين تحداهم فيها بالعشر بعد الواحدة. وسورة الإسراء نزلت قبلهن، وفيها ذكر عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله (17: 88) ولكنه لم يكن تحديا، وكان آخر ما نزل في التحدي آية سورة البقرة (2: 23) وهو تحد للمرتابين فيما نزله الله على عبده بأن يأتوا بسورة من مثله ; إذ كان نزولها في السنة الثانية للهجرة.
الخلاصة أن مشركي مكة المعاندين لم يجدوا شبهة على القرآن - بعد شبهة السحر القديمة التي لم تلق رواجا عند العرب ; لأنه كلام بلغتهم عرفوه وعقلوه وأدركوا علوه على سائر الكلام - إلا زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه في جملته، وما هو وحي من عند الله - تعالى -، فتحداهم بالإتيان بمثله بالإجمال، وبسورة مثله في جملة مزاياه من نظمه وأسلوبه، وبلاغته وعلومه، وتأثير هدايته، وسلطانه الإلهي على الأرواح والعقول فعجزوا، وبقيت لهم شبهة عليه في قصصه; إذ ادعى أنها من أنباء الغيب أوحاه الله إليه، فزعموا أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وأنه أساطير الأولين اكتتبها لنفسه فهي تملى عليه ويلقنها لئلا ينساها، وهذه شبهة خاصة موجهة إلى قصصه المتفرقة في سوره الكثيرة، لا يدحضها عجزهم عن الإتيان بسورة واحدة مثله في بلاغتها التي حصروا الإعجاز فيها، ولا إبداع نظمها ولا طرافة أسلوبها أيضا، ولا سيما إذا كانت قصيرة، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات، أي مثل هذه القصص التي زعموا أنها أساطير الأولين، وإنما تكون مثلها إذا كانت جامعة لمزاياها المعنوية العلمية التي بينا أظهرها في الجمل العشر آنفا.
وجملة القول أن التحدي بعشر سور مثله مفتريات قد كان لإبطال هذه التهمة الخاصة من الافتراء، وقد بينا معناها، والسور المفصلة فيها التي تمت عشرا بهذه السورة (هود) وكلفهم دعوة من استطاعوا من دون الله - تعالى - ليظاهروهم فعجزوا، ولم يجدوا من آلهتهم ولا من فصحائهم ولا من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب من يستجيب لهم، فقامت عليهم الحجة وعلى غيرهم إلى يوم القيامة، فهذه حكمة هذا التحدي الظاهرة هنا.
وله حكمة أخرى باطنة لازمة للأولى هي التي تمت بها الفائدة، وهي أنه يوجه الأنظار ويشغل الأفكار بالتأمل في القرآن، وتدبر ما حواه من حكمة وعرفان، وما لها في القلوب والعقول من تأثير وسلطان، فيا حسرة على الغافلين الذين زعموا أن إعجازها محصور في فصاحة المفردات والجمل وبلاغة البيان، على ما في دلالة الفصاحة والبلاغة على النبوة من الخلفاء على الأفكار والأذهان، وقد اختلف المتكلمون في وجه دلالة المعجزة على الرسالة، وقال الغزالي: إنه لا علاقة بينها وبين إبراء الأكمه والأبرص، أو انقلاب العصا حية، ودلالة القرآن ببلاغته مثلها بخلاف دلالته العلمية، فإنها عقلية كدلالة مدعي علم الطب على علمه بكتاب ألفه فيه يعالج به المرضى فيبرءون. فالبلاغة تكون بالسليقة، ولكن لا تظهر فجأة وكاملة في سن الكهولة، والعلم لا يكون إلا بالتعلم قبل هذه السن، وعلم الغيب خاص بالله - تعالى -، فثبت بهذا أن علم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحي برز بكلام معجز للخلق. والحمد لله الذي آتى هذا العبد الضعيف المتأخر من هذه الكلمة والفهم في كتابه ما لم يؤت أولئك الجهابذة الأقوياء من أئمة العلم وفرسان الكلام، إثباتا لما وصف به من كونه لا تنتهي عجائبه، ولا يحيط أحد به علما، وأن فضله على عباده لا ينحصر في زمان ولا مكان.
ويؤيد ما اخترته قوله عز وجل في تقرير هذا الاحتجاج من أن العجز عن المعارضة دليل على أن القرآن من العلم الإلهي قوله - تعالى -:
{ فإن لم يستجيبوا لكم } في هذا الخطاب وجهان صحيحان: (الوجه الأول) أنه تتمة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى به المشركين، فهو يقول لهم: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة لسور القرآن، من آلهتكم الذين تدعون وتعبدون، وهواجسكم الذين يلقنونكم الشعر كما تزعمون، وقرنائكم من فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ومن علماء أهل الكتاب العارفين بأخبار الأنبياء ; لعجز الجميع عن ذلك { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي فاعلموا أنما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى علم الله، ملابسا له، مبينا لما أراد أن يبلغه لعباده من دينه على ألسنة رسله، لا بعلم محمد ولا غيره ممن تدعون زورا أنهم أعانوه عليه ; لأنه في جملته من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله - تعالى - به، كما قال:
{ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } [الأعراف: 7] وكما تراه في آخر قصة نوح من هذه السورة هود (الآية 49) ومثلها في آخر سورة يوسف (12: 102) ومثلهما في سورة القصص (28: 44 - 46) وقال في آية أخرى بعد ذلك: { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا } [النساء: 166] وقال: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول } [الجن: 26-27] إلخ. وما فيها من العلم الكسبي لم يكسب منه محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا.
الاستجابة للداعي إلى الشيء كإجابته إليه، وعدم الاستجابة لهم داحضة لدعواهم، مثبتة لكون هذه العلوم التي فيه من علم الله لا من علم البشر، وهو صريح في أن المراد إنما هو التحدي بما في هذه السور من العلم ; لأنه هو الذي دحض دعواهم أن محمدا افتراها و ((أنما)) المفتوحة الهمزة تدل على الحصر كالمكسورة على التحقيق { وأن لا إله إلا هو } أي واعلموا أنه لا إله يعبد بالحق إلا هو ; لأن من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز كل من عداه عن مثل ما يقدر هو عليه، كما ظهر بهذا التحدي عجزكم وعجز آلهتكم وغيرهم عن الإتيان بعشر سور مثل سور كتابه بالتفصيل، وعن سورة واحدة بالإجمال
{ فهل أنتم مسلمون } أي فهل أنتم بعد قيام هذه الحجة عليكم داخلون في الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بعقائده وحقية أخباره ووعده ووعيده، مذعنون لأحكامه؟ أي لم يبق لكم محيص من الإسلام والانقياد، وقد دحضت شبهتكم. وانقطعت معاذيركم، إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، فهذا الاستفهام يتضمن طلب الإسلام والإذعان بأبلغ عبارة، فهو كقوله بعد وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس من عمل الشيطان، لا يريد إلا إيقاع الشقاق والبغضاء بين الناس في الخمر والميسر وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وبعد هذا كله قال:
{ فهل أنتم منتهون } [المائدة: 91] أي عنهما بعد علمكم بهذا الرجس والمخازي التي فيها أم لا؟ وأي إنسان يملك مسكة من عقل وشرف لا يقول عند نزول هذه الآية في سورة هود: أسلمنا أسلمنا، كما قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم عند نزول تلك الآية: انتهينا انتهينا؟.
(الوجه الثاني في الآية) أن الخطاب فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجمع الضمير في لكم للتعظيم، بناء على أنه غير خاص بضمير المتكلم، أو له ولمن معه من المؤمنين، إذ كانوا كلهم دعاة إلى الإسلام معه - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إنه لهم وحدهم، وهذا مروي عن مجاهد. والمعنى: فإن لم يجبكم هؤلاء المشركون إلى ما تحديتموهم به من الإتيان بعشر سور مثله ولو مفتريات لا يتقيدون بكون أخبارها حقا كأخبار القرآن - وما هم بمستجيبين لكم لعجزهم وعجز من عسى أن يدعوهم لمظاهرتهم عليه - فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله، وازدادوا به إيمانا ويقينا بهذه الحجة، وأنه لا إله إلا هو، ولا يستحق العبادة سواه، فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإخلاص فيه؟ أي اثبتوا عليه، والوجه الأول أظهر وأقوى، وعليه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري، وأشار إلى ضعف الثاني، ولكن رجحه كثيرون، والحق أنه صحيح ولكنه خلاف الظاهر المتبادر.